ماذا لو كان هناك دواء يخفي الألم، يعدم مشاعر الأسى والعذاب، هل كنت لتتناوله؟ ماذا لو، لا قدر الله، فقدت فلذة كبدك، استولى العذاب على كل ذرة في جسدك وعصرك الألم حد الجفاف، هل كنت لتختار تناول هذا الدواء لتفقد كل مشاعر الألم ولا تعود تهتم لهذا الفقد؟ ماذا لو اخترت تناول هذا الدواء دقائق بعد سماعك خبر فقدك؟ ماذا سيقول هذا القرار عنك كإنسان أن تختار ألا تؤاسي فجيعتك ولا تمر بحزنك المستوجب ولا تعاني ألم فقدك لفلذة كبدك؟ كانت هذه بعض النقاط الفلسفية لجلسة حوارية عميقة بين العالمين ريتشارد دوكنز وسام هاريس، لم يسعني وأنا أستمع إليهما سوى أن أسقط ما يتناولون على وقائع حياتنا العربية الإسلامية المشبعة بالأسى والعذاب والفقد. يقول سام هاريس إن اختراع مثل هذا العقار ليس ببعيد عنا، إلا أننا سنكون أمام قرارات أخلاقية غائرة في بعدها الإنساني ونحن نحاول أن نجد طريقنا بين مشاعرنا ومبادئنا وتطوراتنا التكنولوجية كبشر.
ما لم يخبره هاريس ودوكينز هو أننا، الأمة العربية الإسلامية، قد اخترعت هذا الدواء فعلاً، لا يتناوله الأفراد منفصلين، بل تتناوله شعوب بأكملها، جرعات جماعية تخدر مشاعرها وتبلد أحاسيسها تجاه ما يحيط بها من بشاعة وألم وفقد. أن تستطيع، كبشر، أن تجد مخرجاً لدموية النظام السوري البشع، أن تستطيع أن تستخدم كلمات رنانة وألفاظاً سياسية تحليلية طنانة لتخبرنا كيف أن العنف مستوجب والأطفال القتلى هم في عداد الأضرار الجانبية والضحايا المفروضين في حالات الحروب، فأنت ولا بد “متناول”. أن تستطيع أن تستخدم إيران وتحليلاتك السياسية لتقمع صوت الإنسان البحريني وتتقبل إهانته وضربه وحبسه وترضى بنقصه الذي لا ترضاه لنفسك، فأنت ولابد “متناول”. أن تريح توجهك الإسلامي في مظلة صندوق اقتراع فلا تعود ترى طائفية وقبح نظام مرسي وأن تنيخ توجهك الليبرالي في ظلال الاحتكام للقانون فلا تعود ترى عنف واستمراء نظام السيسي فأنت ولابد “متناول”. أن تستخدم شيعيتك لتحسن منظر حزب الله وهو يغمس أياديه في دماء السوريين أو تستخدم سنيتك لتبرر مقتل أطفال الضاحية الجنوبية في لبنان أو تعود فتستخدم شيعيتك لتتفهم مقتل اثنين وأربعين طرابلسياً شمالياً، فأنت بلا شك “متناول”، وجرعة ثقيلة، حتى لتبلد كل الإحساس وتوقفت كل أشكال التلاقي الإنساني، بعت نفسك عندما بعت بني جنسك، وقبضت الثمن… أفيون.
والأفيون مريح كثيراً على ما أسمع، لذا، قد لا ألوم الشعوب العربية الإسلامية “تحشيشها” الجماعي، فمصائب هذه الشعوب ومآسيها وأحزانها بحر أحمر يتدفق لا شطآن له يرتاح عليها المنكوب. لذا، أتفهم عندما يسر الناس لأنفسهم بأن هؤلاء الأطفال الذين ماتوا ما هم سوى ثمن لنصر قادم عظيم، هم قربان يُدفع حتى يتسيد التشيع أو حتى يسود السنّة والجماعة، وعندما تنظر لعظم الهدف، سيادة الفرقة الناجية، وعندما تقدر شحاحة الثمن، كم طفل على كم امرأة على كم رجل، ما هم سوى قطرات إنسانية في بحر من البشر المتلاطم، عندما “تسحب نفس” الطائفية، وتأخذ “شمة” سياسية، على شوية “حبوب” أخروية تجعلك تطير مع الملائكة باتجاه الجنة، فأي ألم ستقاسي وأي وخز ضمير ستشعر؟ حقيقة، من يلوم شعوبنا على تحشيشها الجماعي؟ أي شعوب أخرى تستطيع أن تتداول وتتعامل مع مصائب جمعية كمصائبنا؟ إن أردت طائفية، أو أردت استبداداً، أو رغبت في عنف، أو اشتقت لدماء، دكتاتورية، فقر، جهل، تنكيل بالمفكرين، تكفير للعاقلين، تطهير عرقي، أيديولوجيات بائدة، بعضها وفي الأغلب كلها تحت ذات السماء، فكيف لا نحشش؟ كيف لا ندخن طائفيتنا وعنصرياتنا وأحلام جناتنا وحور عينها وولدانها المخلدين؟ بغير بلادة الإحساس لا يمكننا أن نستمر، فلا تسألن عن معنى هذه البلادة ولا تفلسف أبعاد اختيارها كما يفعل دوكينز وهاريس، نولع الحجرين أحسن ما نولع في أنفسنا.