كانت مكالمة من حسين، العامل البنغالي اللطيف الذي يعمل في قسمي العلمي بجامعة الكويت، تلك التي مست قلبي في عمقه وأوعزت بكتابة هذا المقال. وصلني صوته على عادته متسارعاً متداخلاً على التلفون، وبعد عدة استفسارات مني وتوضيحات غائمة منه، فهمت أنه يشكرني على مقالي على الحرة المنشور الأسبوع الماضي، ذلك أنني بحسب كلماته “تقولين إحنا يقعد في الكويت وما يمشي، إحنا نحب الكويت”.
أخبرني حسين أن الموضوع منتشر بين أصحابه وأن مقاطع من المقال نشرت بينهم باللغة البنغالية، حتى أنه أرسل لي صورة للخبر المنتشر بينهم الآن. حسين فقد والدته منذ فترة ولم يستطع أن يغادر الكويت لوداعها، يعاني من الكثير من المتاعب الحياتية والمادية، لكنه وجد الوقت والطاقة ليتصل بي ويشكرني ويعبر عن فرحه بمشاركتي البسيطة المعبرة عن شيء من قلقهم. كان تواصل حسين أجمل ما وصلني بعد المقال.
ولقد كتبت الأسبوع الماضي مقالاً على موقع الحرة أصارح فيه قرائي بأننا ككويتيين تحديداً وخليجيين عموماً نحتاج لدورات تأهيلية تعيد الثقة بيننا وبينا ضيوفنا المقيمين بين جنبينا. ورغم أنني أكتب بشكل مكثف ومستمر حول هذا الموضوع خصوصاً على وسائل التواصل، إلا أنه وردت على هذا المقال تحديداً ردود أفعال قوية ومتنوعة في مواضيعها لم تتوقف لحد الآن.
بدأ الحوار بمناقشة العلاقة بيننا وبين ضيوفنا، لتتكرر الجملة أيقونية العنصرية “إلى مو عاجبه يغادر ويشوف له مكان ثاني” لتتبعها أخرى والتي يعتقدها البعض خارقة المعنى وهي حقيقة كليشيهية الغباء، مع الاعتذار عن التعبير والقادم غيره خلال هذا المقال، لتقول الجملة “لو كان حب الوطن والغيرة عليه عنصرية، فأنا عنصري”.
يعتقد قائلي هذه الجملة أنهم “جابوا الذيب من ذيله” في حين أنهم في الواقع لا يؤكدون سوى على سلوكهم التمييزي الغابر الذي يسبغون عليه صفة عصرية بإضفاء معنى الولاء للوطن له.
والإنسان التمييزي الفكر لا يستطيع أن يرى المنطق الواضح ولو صفعه على جبهته في عز نهار حار ليوم أغسطسي من أيام الكويت. فحين يشتكي الكويتيون من كثرة المقيمين في البلد، يحضر السؤال: من وظفهم واستضافهم وختم تأشيرة الدخول على جوازاتهم؟ وحين يشتكون من نوعية العمالة المستضافة، يحضر السؤال: من اختارهم واستفاد من استخراج إقامات لهم ليرميهم تالياً في شوارع الكويت القائظة؟
وحين يشتكون من انحياز بعض الجنسيات لأبناء جلدتهم حتى أن “المواطن يشعر بالغربة في وطنه” حد تعبيرهم، يحضر السؤال: من أهمل في تطبيق القانون وسمح للآخرين بالتسيب بل وقدم نموذجاً خارقاً للواسطة ليتبعه الضيوف وينفذوه؟ ألا يقول المثل “إذا كان رب البيت بالدف ضارب؟” ألا ينضبط ذات هؤلاء الناس ويلتزمون بالقوانين ولا يفكرون في تمييز أبناء جلدتهم لو أنهم كانوا يعملون في دولة أوروبية مثلاً؟ ما الفرق؟ ما الذي يخلق التزاماً هناك وتسيباً هنا؟
وحين يشتكون من التضييق في الخدمات وازدحام المرافق، يحضر السؤال: ومن لديه الأموال والمقدرات ليبني ويتوسع في خدماته؟ ومن أهمل هذا التوسع على مدى الأربعين سنة الماضية حتى أن أعدادنا التي ازدادت، وهو ازدياد طبيعي ومتوقع، لم يلاحقه تطوير وتكثيف للخدمات، وهو التطوير والتكثيف المطلوبين؟ من المسؤول عن ضعف الخدمات وقلتها في بلد غني، كثير الخيرات قليل الأعداد؟
كل هذه أسئلة مستحقة، أجوبتها واضحة تسد عين الشمس، إلا بالنسبة للمتحيز، فمرض نفسه يعميه عن الشمس، يمنعه فعلياً من مواجهة الأجوبة الحقيقية، هي على كل مؤلمة، وهي تضع المسؤولية عليه وعلى بلده، ونحن شعوب لا تحب المسؤوليات، تعشق التبريرات، وتتشوق للشماعة التي تعلق عليها كل مشاكلها.
ولقد رد البعض مباركاً “الهجرة الجماعية” التي قد تحدث من الكويت كرد فعل على المود العام تجاه مقيميها، وهذا الرد يفصح عن ذات الرؤية القاصرة والتواضع المنطقي الذين تتسبب فيهما العنصرية. مع بداية أزمة كورونا، كان هناك وعد حكومي قوبل بالكثير من الابتهاج بخفض عدد الوافدين في الكويت لما يقترب من 70 في المئة، وهو وعد وابتهاج يفتقران لأبسط قواعد المنطق.
هل هناك حاجة فعلياً لتعداد أسباب كارثية مثل هذا الوعد دع عنك محاولة تنفيذه؟ دعونا ندخل على هذا التصريح من أبسط أبوابه، العمالة المنزلية التي لربما يقترب عددها من المليون في الكويت، كيف سيتم الاستغناء عنها؟ من سيحل محلها؟ هل فكر أصحاب تعليق “أبركها من ساعة” على خبر مغادرة الوافدين برد الفعل المنزلي عندهم عندما تختفي العاملات اللواتي يحملن الأعباء العظمى بأقل الأجور؟ أتصور أن الكويتيين سيقرمشون الحكومة بأسنانهم لو أن شيئا من هذا حصل، لو خلت بيوتهم، محلاتهم، محطات وقودهم، شوارعهم، جمعياتهم، محلات نجارتهم وحدادتهم وتصليح سياراتهم من العمالة النشطة التي تخدم الكويت وأهلها دون كلل أو ملل.
وماذا عن الخبرات الثمينة التي بنت هذا البلد؟ ماذا عن “مقيمين” ولدوا هنا، وولد أبناؤهم وأحفادهم هنا، فخدموا الدولة في مختلف مرافقها وبنوا بعض أهم مؤسساتها بخبرات ما كانت متوفرة في بداية بناء الدولة الحديثة؟ ماذا عن هذه الأسر الكاملة التي لم تعرف أرضاً غير هذه الأرض، لم تحب وطناً غير هذا الوطن؟ ماذا عن أساتذة الجامعة، على سبيل المثال، الذين قضوا أربعين أو خمسين سنة في أقسامهم العلمية، ليضعوا لها لبناتها الأساسية وليذيبوا شبابهم وخبراتهم وأعمارهم في أروقتها، ماذا عنهم بعد كل هذه العِشرة والزمن والاستقرار والخدمة الأمينة؟
هل وهم يضبون الذكريات في الحقائب ويلملمون الأعمار في صناديق ويذهبون لغربة شاسعة في مرحلة عمرية تتطلب دفء الاستقرار، هل سنقول لهم وهم وهم مغادرون “أبركها من ساعة؟” هل هذا تصرف إنساني طبيعي؟
إلا أن الموضوع لم يقف عن هذا الحد، فقد كتب أحدهم مستغرباً من موقفي الدفاعي تجاه المقيمين، منوهاً أن “لو ما أعرفها الدكتورة شخصياً وعائلتها الكريمة جان قلت أن جنبها مضروب بس إهي كويتية بطن وظهر”. ولأن هذه الجملة قبيحة نفسياً واجتماعياً وعلمياً وتاريخياً ومنطقياً، لم أجد رداً عليها سوى أن كتبت: “فكرة نقاء الدم وأصالة العرق هي أغبى فكرة اخترعها الإنسان وصدقها، أغبى فكرة بلا منازع”.
هنا فُتح باب جديد، باب قبيح، يخفي خلفه الكثير من الأمراض التي، رغم معرفتي التامة بمجتمعنا الخليجي، ما توقعت استيطانها إلى اليوم وبهذا العمق، وما تصورت جرأة التعبير عنها بهذا الوضوح. توالت التعليقات، عند البعض أنا “غير مضروبة” وعند آخرين أنا بالتأكيد “مضروبة” بأصولي الفارسية، ليلف رأسي ويدور بين الحوارات الممتدة حول الأصالة والنسب وخلال الكثير من التعليقات التي أتت لتمجد نقاء الدم وصفاء العرق.
هذه حكاية قادمة للمقال القادم، والذي سأحكي لكم في أوله عن حوار انعقد بين مغردين تناقشا خلاله حول الفرق بين أبو جهل وسلمان الفارسي، هل يمكنكم التنبؤ بمن كانت له الأفضلية الأصولية في هذه المقارنة؟