حريق

اعتقد النواب الشيعة بأنفسهم القوة، وليس عليهم المطالبة بإلغاء كلية مقامة بكل إشكالياتها، ففي النهاية هي ليست إجبارية والطلبة ينضمون إليها بمحض إرادتهم، ولكن عليهم، من باب أولى، المطالبة بإنشاء كلية دراسات للفقه الشيعي توازي كلية الشريعة، ولنرَ نتاج هذه المطالبة إذا كانوا إلى هذه الدرجة قد اعتدّوا بقدراتهم وتحالفاتهم الحالية.

اصطفت النيابة الشيعية (أقصد نواب البرلمان الشيعة) مع الجانب الحكومي في الصراع المقاطع المعارض الأخير، فحلوا هم اليوم محل “جماعة” الأمس، واعتقدوا لسببٍ ما وبرؤية ما أن الزمان زمانهم، وأنه آن لهم أن يفردوا عضلاتهم، فانطلقوا غير عابئين ليصطدموا بالجدار المرئي، جدار اعتقدوا أنه زال، فما لبثوا أن وجدوه يقف صداً ويرتفع شاهقاً ويتصلب جبلاً أمام دبيبهم المسكين. اعتقد نواب الشيعة أن الزمن حان ليقطفوا ثمار وقفتهم القوية الحكومية، ولكن “طاخ” اصطدموا بالواقع المرير، وتصدروا الصفحات الأولى من الجرائد بتصريحاتهم المتعجرفة أحياناً والمستحقة أحياناً أخرى، وكلها إما إلى النيابة أو إلى أدراج الرياج ذاهبة في خيبة أمل كبيرة لمن اعتقدوا أنهم أمِنوا الزمن واعتلوا تلاله.

 إن إشارة صالح عاشور إلى استشكالية كلية الشريعة ليست جديدة؛ فقد أشار إليها الكثيرون في السابق، لكنها إشارة متهورة اعتقد صاحبها أنه اليوم في مكانة تُقدِره على “المنفيين”، غير عالم أن المنفيين هؤلاء حاضرون، وأنهم تغلغلوا في جسد الدولة السياسي والاجتماعي، وأن قواهم تعدت البرلمان اليوم والتحالفات الحكومية حتى أصبحوا تهديداً حقيقياً لمن صنعهم، فأي تهور هذا يا أبا مهدي؟! وأي غرور بالقليل من الحظوة الزائلة؟! وهل تعتقد أن الشارع يأمنك وجماعتك وأنتم تأتون بذات الفكرة ولكن من الجانب المقابل؟! وهل ستكونون مختلفين أو أفضل؟

 بوصفي عضوة في الهيئة التدريسية لجامعة الكويت، طالما تجنبت الكتابة حول ما يدور في الجامعة أو نقده، فأولاً أخلاقيات العمل ومبادئه تمنعني من النقد المباشر، وثانياً حظوة الجامعة ومحبتها العميقة في قلبي تجعلانني متطرفة لها ومحابية لمكانتها، إلا أن هناك من الخلل أحياناً ما يستصرخ البوح، وسأكتفي بالقول إن هناك في تخصص “العقيدة والدعوة” في كلية الشريعة مقرراً اسمه “الإسلام والتيارات المعادية”.

يمكننا أن نتخيل نوعية المادة المقدمة فيه، وأن أول أهداف هذا التخصص ينص على “تقديم العقيدة الصحيحة في صورتها الأصيلة الأولى وتحريرها من التعصب والبدع والخرافات التي تعوق انطلاق حاملها”، في إشارة إلى وجود عقيدة صحيحة بصورة أصيلة، وغيرها كله “تقليد” ومبتدَع، هذا غير ما نعرفه داخلياً عما يدور في أروقتها وما نراه بأم أعيننا من منتجاتها، ولكن هذا الموضوع متروك للآخرين للاستفاضة فيه، وهو ليس حديثي اليوم.

فحتى لو صدق عاشور في بعض ما أتى به في تصريحه أو كله، فهل أوهمته نفسه أن هذا الزمن زمنه وأنه سينبش في هذه القنبلة التي لم تتمكن حكومات متعاقبة في البلد من تعطيل دقاتها ليحاول هو تعطيلها وإنهاء خطرها؟ وهل يمكن تصديق أن هذا حديث صادق مهتم لا تراشق طائفي متحيز؟ وهل اكتشف السيد عاشور المشكلة اليوم فقط بعد أن بلغت الكلية 32 عاماً من العمر؟ لقد أخذ الغرور نواب الشيعة اليوم ليعتقدوا أنفسهم محصنين لدخول عش الدبابير، فما لبثوا أن لُسِعوا بشدة وعلى الصفحات الأولى في الجرائد.

إن كان لابد، واعتقد النواب الشيعة بأنفسهم القوة، فليس عليهم المطالبة بإلغاء كلية مقامة على كل إشكالياتها، ففي النهاية هي ليست إجبارية والطلبة ينضمون إليها بمحض إرادتهم، ولكن عليهم، من باب أولى، المطالبة بإنشاء كلية دراسات للفقه الشيعي توازي كلية الشريعة، ولنرَ نتاج هذه المطالبة إذا كانوا إلى هذه الدرجة قد اعتدّوا بقدراتهم وتحالفاتهم الحالية، وبهذا تصبح لدينا كلية شريعة سنيّة تقابلها كلية شريعة شيعية، فتستقرّ أحوال البلد ويذهب كل ذي طائفة إلى مدرسة طائفته، أو، وهو ما سيحدث، يشعلون النار فينا وفي البلد ويحولوننا إلى رماد ونرتاح منهم ومن أنفسنا.