شاهدت قبل أيام فيلم «زوجة حارس حديقة الحيوانات» الذي يحكي قصة زوجين يعتنيان بحديقة حيوانات وارسو، بولندا؛ حيث يستخدمان حديقة الحيوانات هذه بعد الهجوم النازي على بولندا لتخبئة يهود وارسو تمهيداً لتهريبهم خارج البلاد. تتضمن القصة إشارات لغرابة وتناقض جنسنا البشري في قدرته على أن يتدرج ارتفاعاً الى أعلى درجات البشاعة، وفي الوقت ذاته لأن يرتفع معتلياً أسمى درجات النبل والشهامة والتضحية من أجل الآخر.
جنس غريب نحن البشر، نستطيع أن نكون الشيء ونقيضه في الوقت ذاته (علمياً تزامن الشيء ونقيضه مستحيل)، نستطيع أن نصور أجمل المبادئ، وأن نؤسس لأبشع الممارسات، نستطيع أن نسمو بأجمل التضحيات، وأن ننحدر بأفظع صور الأنانية الغبية مستعينين بالجنس واللون والطبقة وغيرها إطعاماً وإسماناً لأنانيتنا الغرائزية البحتة. جنس غريب وعجيب نحن، يقول فينا العلماء أننا جنس (Homo Sapiens) ما إن تواصلنا مع جنس آخر قبلنا أو بعدنا حتى أهلكناه؛ حيث أننا قضينا على كل الكائنات البشرية الأخرى القريبة من جنسنا، التي تزامنت مع ظهورنا الأولي، فما استطاعت مقاومة وحشيته أو الاستمرار معه. نحن جنس غاية في الإعجاز، نمتلك عقلاً خلاباً ووعيا هو الوحيد من نوعه الذي يفقه معضلة وجوده وعدميته، هو الوحيد الذي يتساءل عن هدف ظهوره على الأرض وعن طبيعة كينونته فيما بعد هذا الوجود المادي، هو الوحيد الذي يؤثر في محيطه ويغيره، ورغم كل ذلك، يبقى هذا الوعي هو الوحيد المدمر لكل ما حوله، القادر على ارتكاب بشاعات لا وصف لها ولا حد لدمويتها، فمن هم نحن؟
الغريب أنه حتى من منا ذاق ويلات العنف وبشاعة الأنانية وغباء التمييز، يسري عبر الزمان ليعود فيضهد غيره بذات الأدوات، فيذيقه العنف، ويتعامل معه بأنانية وغباء. وها هم ضحايا أبشع مجازر العالم من اليهود، يحيدون عن ديانتهم ويمتطون صهوة الصهيونية النازية المحتوى، فيعملون وحشيتهم في أصحاب أرض آمنة لم تكن يوماً حتى مجرد طرف في مأساتهم السابقة. وهنا يهاجمك هذا التناقض العنيف، كيف لحفيد من تعذبوا وماتوا في المحارق النازية أن يؤسس لمحارقه الخاصة به وبعد مرور زمن قصير جداً من مأساته؟ كيف له أن ينسى طعم المرار ورائحة الموت وملمس الذل وصوت التمييز القبيح، والذين لم يمر عليهم أي نسبة من الزمن تسمح بالنسيان، إن كان النسيان ممكناً أصلاً، فيسقيها جميعاً لغيره بلا أدنى تردد بل وببـجــــاحة الحرامي المعتد الواثق وبوقاحة المتدين الذي لا يربأ عن استخدام دينه وكلمة ربه ليسطو بها ويقتل ويعذب ويسرق ومن دون أن يرف له جفن يغتصب وفي وضح النهار وعلى مرأى العالم أجمع؟
لن يحل القضية الفلسطينية اليوم الا موقف عالمي صلب، ومثل ما وضعت أوروبا يدا دموية في الموضوع في بداية القرن العشرين لتخلص نفسها من الذنب اليهودي، عليها الآن أن تضع يدا عادلة لإنهاء هذا الاحتلال البغيض الذي ينغرس سكيناً في خاصرة الشرق الأوسط، مدمياً وجهه كله ومتسبباً في كل نكباته السياسية الاجتماعية والاقتصادية وبلا شك الأخلاقية المتمثلة في التطرفات والعنصريات وتأزمات الهوية. التعويل على أوروبا اليوم، لأنها رغم المصالح والمطامع والسياسات الرخيصة التي لن يتنظف وجه البشرية في يوم منها، الا أنها تمثل الطرف الأكثر عقلانية والأكثر رغبة في «إظهار» وجه إنساني عادل للعالم اليوم. أما القطب الأمريكي وشبه القطب الروسي فلا نتاج من التعويل عليهما، الموضوع منته ما أن تبدأ بالنظر الى توجهاتهما وتدخلاتهما في الشرق الأوسط وتنتهي بالنظر لرئيسيهما، أحدهما رئيس عصابة والآخر قاطع طريق.
إذا لم يتدخل العالم وينهي العويل المستمر من أرض غصن الزيتون، فلا أمل في إنسانيتنا، ولا نفع لوعينا، ولاهيبة لعقلنا، ولا طعم لكل إنجازاتنا وحضاراتنا وفنوننا وآدابنا وتكنولوجيتنا، كل شيء سيذوب في محارق الظلم والوحشية، فهذان يقضيان على كل ما يقع في جعبتيهما مهما جل أمره وعلا شأنه. ننقذ فلسطين، لننقذ الإنسانية.