“أنا ما خربت حياتي، عثرت بها خربة” (227) تقول الفتاة/الفتى ريان هذه الكلمات وهي تسرد قصتها في رواية جريئة وإنسانية للأديب الكويتي طالب الرفاعي. وطالب الرفاعي هو نوع من الأدباء الذي يخلق تحديا قاسيا لنفسه في كل رواية من رواياته، محاولا تقصي مشاعر وأحاسيس وتجارب شخصيات لا يعرف هو الكثير عنها ولا يمت لها بصلة لا بيولوجيا ولا أيديولوجيا ولا اجتماعيا.
في أول رواية قرأتها له (هي ليست أول رواياته) وهي بعنوان “رائحة البحر” أتى الرفاعي على توصيف دقيق لمشاعر وآلام امرأة في المخاض. استغربت جدا وصفه الدقيق، سألته كيف استطاع أن يعبر بهذه الدقة، من أين له أن يعرف كيف هو شعور اختراق ألم المخاض للظهر كأن سيخ محمي؛ فأخبرني أنه باحث دقيق قاس، اختبر عملية الولادة مع زوجته وبحث فيها حد الدخول في أدق تفاصيل معاناتها.
ولأن الرفاعي يَجِدّ في خلق تحد خارق لنفسه ككاتب، ولربما كإنسان كذلك، في كل أعماله تقريبا، تناول في روايته الجديدة “حابي” قصة فتاة ولدت بجسد أنثى ولكن بهورمونات وكروموسومات ذكر، حيث يستعرض في روايته المكونة من 281 صفحة رحلة هذه الفتاة مع عملية التحول في مجتمع محافظ لا يمكن أن يقبل الفكرة أو حتى يتفهم المنظور العلمي البحت خلفها، ورحلتها مع نفسها، ومع جسدها الآخذ في العودة لذكورته الأصلية التي صنع عليها وما اكتملت بسبب التشوه الخلقي الذي أخبره الأطباء أنه ولد به.
أحد أهم ما نلاحظه في الرواية هو انتقال الكاتب من الصيغة الأنثوية التي يستخدمها في بداية السرد إلى الصيغة المذكرة التي تهيمن في نهايته، إلا أن هناك تذبذب في استخدام الصيغتين، مثل ما ورد في جملتي السابقة التي لم أعرف كيف أصيغها بإشارة جنسية واحدة، وهو تذبذب يترك القارئ في حيرة من أمره، ويجعل من المعضلة اللغوية مثالا على هذه الفوضى النفسية الرهيبة والحيرة البيولوجية المرعبة التي تمر بها الشخصية.
تحكي الرواية قصة الفتاة “ريان”، التي ولدت بأعضاء تناسلية ظاهريا أنثوية إلا أنها بلا رحم أو مبايض وبكروموسومات ذكورية بحتة. يأتي اختيار اسم الشخصية من البداية واضح في التباسه، فالاسم ممكن أن يكون لذكر أو أنثى، إلا أن هذا الالتباس اللغوي يرتفع متصاعدا، ليس فقط مع حيرة الكاتب المتعمدة في اختيار أسلوب إشارة، ولكن كذلك من خلال الاسم الجديد الذي تختاره صديقة الطفولة لريان، جوى، والتي تخبره، بعد أن أكدت كل الفحوصات والاختبارات أنه ذكر بلا شك، أنها ستسميه “حابي”، ذلك أن “حابي إله فيضان النيل، صورته على هيئة إنسان، ويظهر جسده معالم الجنس الأنثوي والذكري في الوقت نفسه” (84).
تعطي هذه التسمية بعدا عميقا لحالة ريان، وتصنع منها حالة فوق إنسانية ومعضلة بيولوجية تاريخية، لربما لا تعكس فقط العذاب الجسدي والنفسي لهؤلاء البشر الذين شكلتهم بيولوجيتنا البشرية البدائية المعرضة للأخطاء والهفوات والتعرجات الخطرة الغريبة ليكونوا حالة بين حالتين، ولكن كذلك لتعكس الحالة الإنسانية العامة لكائنات وجدت في كون شاسع لا متناه، لا يعرفون عنه شيئا، لا يعرفون عن أنفسهم شيئا، ولا يزالون يعانون من معضلة تعريف أنفسهم لأنفسهم بحد ذاتهم.
لربما حابي هو حقيقة كل بشر منا على سطح هذه الأرض، حيث، وكما يقول الكثير من علماء البيولوجيا والأنثروبولوجيا، كل البشر مكونين من الجنسين ومحتجزين بينهما، بل إن هناك مجتمعات، أكثر جرأة في مواجهة قصور جنسها الإنساني، أوسعت في تقسيم البشر عن الجنسين الرئيسيين للذكر والأنثى إلى أقسام أخرى، يمكنها أن تشمل بشكل أكبر التنوعات الجسدية والنفسية المختلفة التي قد يولد الإنسان بها أو قد يطورها فيما بعد.
ولكن، كيف يمكن تقديم هذه الحقائق البيولوجية والأيديولوجية والفلسفية لمجتمع محافظ منغلق بالكاد يقبل التغيير مثل مجتمعنا الخليجي؟ هنا يأتي الدور العظيم للأدب، فلربما عن طريق رواية، رواية محايدة، تستعرض حالة منقولة، وناقل الكفر ليس بكافر، يمكن البدء بفتح الباب لهذه الغرفة البشرية المحظورة المغلقة. هكذا يفعل الأدباء الذين يكشفون آلام البشرية ومعضلاتها، يسردون لنا الحكايات ويتركون لنا أن نتمعن، أن نتصارع، أن نتعذب بالحقائق التي ربما يصعب قبولها، إلا أنه لا يمكن نفيها أو تجاهلها.
تسرد رواية “حابي” معاناة خارقة لريان؛ بداية من مواجهته مع أب شرس ينتهي بطرده تماما من البيت، مرورا بتعامله مع أخوات، إحداهن تعرض عليه الأموال ليغادر البلاد ولا يريهن وجهه بعد تحوله، انتهاء بالمجتمع الكبير الذي، يعلم أنه لن يستطيع قبول تحوله حتى وإن ثبتت الحاجة له بالفحوصات والأوراق الطبية.
يظهر الأمل في الرواية في صورة الأطباء المتفهمين، الذين يعينون ريان ويأخذون بيده إلى النهاية، وفي صورة الأم التي تبدو في البداية منكسرة، لتنتهي لأن تكون بطلة خارقة القوة تأتي بابنها من الظلام إلى النور، في مفارقة غريبة ورائعة، فهذه الأم التي طالما تمنت ولدا لم تنجبه، انتهت إلى أنها صنعته صنعا، بعد أن حملت نفسها “إثم” تمني الولد أكثر من أي شيء آخر، و”إثم” التشوه الخلقي الذي أتى به ريان إلى الدنيا.
الرواية رائعة التفاصيل، قاسية المعاني، تضعك في كل سطر من سطورها أمام نفسك، أمام معتقداتك، أمام قناعاتك البشرية التي تعلم أنت بخطئها كما تعلم بصعوبة تغييرها في نفسك. إلا أنها تذهب لأبعد من ذلك لتضع المجتمع بأكمله وبقوانينه في مواجهة مع حالات إنسانية حقيقية لا بد من الاعتراف بوجودها تقنينا وتشريعا وكذلك تسهيلا طبيا.
في الكويت مثلا، لا يمكن إجراء عمليات تحويل، كما أنه من الصعب جدا تغيير الهوية من جنس لآخر، وهي المحاذير والصعوبات الموجودة في كل دول الخليج حسب علمي، وفي أغلبية الدول العربية عموما. اليوم تطور بنا العلم لمرحلة لم يعد معها من اختيار سوى مواجهة الحقيقة: جنسنا ليس واضح المعالم، و”صنع جنسنا” البيولوجي ليس بهذه الدرجة من البساطة والمباشرة، فالبشر أنواع بيولوجية مختلفة، بل وربما، كما يقول العديد من الباحثين التقدميين، كل بشر منا يمكن أن يكون حالة بيولوجية مميزة مختلفة عن غيرها.
لا بد لنا اليوم من إعادة النظر في قوانيننا الصارمة التي تعزل “المختلف” وترفض من جارت البيولوجية عليه فخلفته بين البينين، معزولا بين هويتين. كم من “حابي” متخف في مجتمعاتنا، يعيش أو تعيش حالة عذاب، سجين أو سجينة غلاف بيولوجي متنافر مع نفسه.
يقول ريان مع نهاية الرواية “ريان تلك الفتاة الغافية في بئر روحي ستبقى تلاحقني طوال عمري لتشاركني وتفسد عليّ… ريان الفتاة لعنة تمسك بي” (252) في إشارة ليس فقط للمعاناة المجتمعية ولكن للمعاناة النفسية والجسدية لشخص متحول لا تزال روحه وجسده يسحبان آثار الجنس الآخر.
من لا يستطيع مواجهة الحقائق العلمية لهذا الوجود البيني للهوية والجسد، فليحاول فتح صفحات “حابي”، فباستعراض الرواية المبسط للجوانب العلمية الطبية والمعمق للجوانب النفسية والاجتماعية الإنسانية، لربما يبدأ القارئ الرافض للمواجهة في فهم هذه المعضلة الإنسانية الكبرى، ولربما، فقط لربما، يفسح مكانا بجانبه لهذه الفكرة الجبارة: فكرة حابي المضطرب الهوية والتي هي في الغالب موجودة داخل كل منا.