مررت بيدي على الأسماء منحوتة على الغرانيت الأسود، آلاف الأسماء متراصة بجانب بعضها بعضاً، كانت في يوم ما بشراً وأحلاماً وأمنيات. يأخذك المشهد المهيب الذي ما تظنه ليثير بك كل هذا الوجل، فالفكرة بسيطة جداً، إلا أن الرهبة كلها تكمن في تلك البساطة، بساطة تذكرك بضعفك وقسوة الحياة. في زيارة سريعة لي لواشنطن، قمت بزيارة النصب التذكاري لمحاربي فيتنام، وهو عمل فني معماري تم نصبه في 1982 تكريماً لمحاربي فيتنام المفقودين والأسرى والجرحى. ولقد أثار هذا النصب اللغط الكثير حين أخذ مكانه في قلب واشنطن تحديداً بسبب بساطة فكرته. يأخذ هذا النصب شكل حائطين من الغرانيت الأسود يلتقيان على شكل حرف V وسط حديقة مليئة بالخضرة، على هذا الحائط يوجد ما يقرب من 58 ألف اسم غائر على السطح الأملس. تقول مايا لين صاحبة التصميم “كان لدي دافع بسيط أن أشق الأرض. تخيلت أنني آخذ سكيناً فأقطع بها الأرض، أفتح أعماقها، ألم وعنف يبدآن واللذان مع الوقت سيبرآن. سينمو العشب مجدداً، إلا أن القطع الأساسي سيبقى، مسطحاً نقياً في الأرض بوجهه المصقول كما المرآة”. أخذ هذا الصرح على أنفاسي بنقاء سطحه وسواده العميق، بأسمائه المتراصة بوضوح وثقة تتحدى الزمن وتغيراته، بالجرح الغائر الذي يخلقه في قلب أميركا شاهداً على أخطائها وجراحها إلا أنه كذلك متنبئ بشفائها. وقفت مطولاً أستند إلى الحائط، يلتصق ظهري بعشرات الأسماء لأشخاص لا أعرفهم، أفكر في جراحنا الكويتية. ترى، ما الذي يمكنه أن يشفيها؟ ولقد خطر لي أننا لا نعطي أنفسنا الفرصة لتقييم أوضاعنا، لا ينظر أحدنا إلى خياراته ومواقفه نظرة موضوعية، كل همنا هو أن نبرر هذه الخيارات والمواقف، أن نثبت صحتها لا أن نقيمها. يبنى على ذلك أننا لا نعترف بأخطائنا، لا نتواجه معها، فتتراكم هذه الأخطاء وتتضخم إلى أن تصبح كوارث مزمنة متقيحة.
أتذكر أن إسرائيل بعد هجوم 2006 على لبنان، أصدرت بل نشرت تقريراً لها يعرف بتقرير فينوغراد، يقوم هذا التقرير على محاسبة النفس وتقييم الأخطاء بقسوة، بل ذهب التقرير إلى ذكر مواضع الضعف وأسماء بعض القادة الذين تسببوا في الهزيمة وغيرها من التفاصيل التي قست على الجيش الإسرائيلي وإدارته. هلل المحيط العربي لإصدار هذا التقرير الذي ارتآه الناس اعترافاً بالهزيمة، مستكملين فرحتهم بالنصر الإلهي كما أطلق عليه حسن نصرالله في وقتها. ولقد كتبت أقول إن هذا التقرير هو لبنة الانتصار الأولى التي تضعها إسرائيل، فتقييم النفس ومحاسبتها ومواجهتها بأخطائها هي أولى الخطوات نحو الشفاء، شفاء من الجراح وشفاء من الهزائم. أما نحن، فالغريبة أننا لا نخطئ، وبالتالي ليس لدينا ما نقيمه أو حتى ما نشفى منه. بعد الغزو العراقي، لم نقرأ تقريراً واحداً حقيقياً حول التفاصل التي كانت، تقريراً لا يلوم الجانب العراقي، فكلنا نعلم اللوم الذي يقع على نظامه الفاحش في ذلك الوقت، ولكن تقريراً يقيم الجانب الكويتي، أخطاء الحكومة، مواقف الأسرة الحاكمة، ماذا حدث وكيف أخذنا على حين غرة؟ هل كان بالإمكان تجنب هذه الكارثة؟ قفزنا نحن فوق هذه المرحلة العلاجية رافضين أن نمس جراحنا علها تثور فتؤلمنا أو تتفتح فتبرز أخطاءنا. وهكذا نستمر وكأننا نتعاند مع آلامنا، وليس أدل على ذلك من استمرار انقسامنا الأخير بين مشارك ومعارض، فكل الهم الآن هو أن يثبت كل طرف منا أنه على حق، حتى بتنا نسعد بفشل المختلفين معنا، غير واعين أن فشلهم هو وقوع لنا جميعاً في مجهول مظلم، فلا المعارضون يرغبون في مراجعة أساليبهم ولا المشاركون يتنازلون لتقييم أداء حكومتهم، وبعد هذا المسير والعراك الطويل، بعد أن قاطع المعارضون وشارك المشاركون، ما الذي تغير؟ هل أصبح مجلسنا أقل طائفية؟ هل تحسن أداء الحكومة؟ هل هناك تنمية؟ كيف خدمتنا المقاطعة وماذا قدمت المشاركة؟ بودي أن أؤسس لنصب تذكاري في قلب العاصمة، حائط حالك البياض يغور في أرض معشوشبة، عليه نكتب تاريخنا، تاريخنا الحقيقي لا الذي يعلمونه لنا في المدارس. نلتقي عند الحائط كل يوم، نستند إلى بياضه، ندع عشبة الأرض تأخذ وقتها لتتسلقه، وحين يختفي بياض الحائط أسفل خضار العشب، نعلم أننا بدأنا نشفى. كلنا كشعب نحتاج الى الحقيقة، مرصوصة منصوصة على حائط نزوره، نبكي هزائمنا عنده، نشفى، ونكمل المسير.
“آخر شي”: تابعوا أخبار المؤتمر الأول لعديمي الجنسية في الكويت على حساب تويتر @StatelessInQ8 إنها خطوة لمواجهة النفس وفتح موضع الألم ترقباً لشفاء قادم