تحميل إغلاق

جينات حظيظة

جينات حظيظة

“It’s hard not to want their things”، مترجمة إلى “من الصعب مقاومة الرغبة في أغراضهم”، هي جملة من بين جمل عدة بقيت ترن في أذني فيما أشاهد المسلسل الرائع “Maid”، أو “العاملة”، المعروض حالياً على نتفليكس.

حكاية المسلسل عميقة وذات أبعاد مختلفة، كلها تبحث في عذابات النساء المعرضات للعنف المنزلي، وكيف يتركهن هذا العنف منتهكات نفسياً، جسدياً، اقتصادياً واجتماعياً.

نهاية المسلسل تظهر ضوءاً في آخر النفق، حين نرى البطلة على وشك أن تبدأ حياة جديدة، حياة لم تستطع أن تأخذ أول خطوة فيها بلا مساعدة مجموعة من النساء حولها. كانت الرسالة، بالنسبة لي على الأقل، واضحة، الخلاص يكمن في التعاضد والتكاتف النسائيين في هذا العالم الذكوري القاسي، الذي لا يرحم.

لكن الجانب الذي أمعن تأثيره في نفسي، والذي هو موضوع المقال، هو جانب التفاوت الطبقي والحاجة المادية التي تفرقنا كبشر والذي كثيراً ما تغيب جوانبه عنا. نحن الطبقة “المرتاحة”، تلك التي تجد سقفاً فوق رأسها وطعاماً على مائدتها وبعض النقود الفائضة لتبذيرها على أشياء لا تحتاجها.

عملت بطلة المسلسل كعاملة ومنظفة حمامات ومنازل في محاولة لبناء نفسها، دولاراً بعد دولاراً، للخروج من عالمها المنزلي التعذيبي وكذلك للخروج من النظام الرأسمالي العنيف المصمم ليخذلها ويُفشل كل محاولاتها.

ولأنها كاتبة واعدة مشلولة بحاجتها وجوعها وتشردها هي وابنتها، بدأت تكتب عن تجربتها تلك في دقائق الفراغ القليلة بين الساعات الطويلة من تنظيف الحمامات الفاخرة. وفي لحظة تنظيفها لمنزل مبهر تماماً دارت هذه الفكرة في رأسها وأدارت رأسي معها: “من الصعب مقاومة الرغبة في أغراضهم.”

طوال الحلقات العشر للمسلسل وأنا أفكر في صفية، العاملة في منزلنا لما يزيد الآن عن العشرين عاماً والتي ستغادرنا لربما في فبراير بشكل نهائي بعد أن أثقلتها السنون وبعد أن فاتتها حياتها في بلدها التي امتدت أبناء وأحفاداً لم تسعد هي بمشاركتهم حيواتهم.

قضت صفية حياتها هنا، تربي أبناء غيرها وترعى منزلاً غير منزلها. بكل وبأي طريق أدير هذه الفكرة، أبدو أنا متهمة بشكل أو بآخر فيها. بعد عشرين عاماً من العشرة مع صفية التي حولها الزمن الآن لأخت وصديقة، لا يبدو لي أنني أعرف كل ما يجب أن أعرفه عنها.

صفية كتومة وأنا حريصة ألا أسألها أكثر مما يجب، ذلك أن قلقاً يلح علي أن هل ستكون صفية حرة تماماً في اختيارها التجاوب مع أسئلتي؟ مهما وثقت هي بي واحترمت أنا خصوصيتها، سيبقى الفرق الطبقي بيننا، وستبقى وظيفتها قيد رضاي، فهل ستشعر هي أنها حرة ملزمة بالرد على استفساراتي؟ كم أكره هذه الفكرة وكم أكره موقعي فيها.

مؤخراً انضمت لأسرتنا عاملة جديدة صغيرة غاية في اللطف وخفة الظل على عكس صفية الجادة المتجهمة معظم الوقت. منذ قدوم جودي لمنزلنا، وأنا قلقة بشكل متصاعد. حين انضمت لنا صفية كنت أنا بعد صغيرة، لم أفكر كثيراً في الفوارق الطبقية وفي نزاهة موقعي فيها، لم أحلل كل تصرف آتيه وكل كلمة تقولها صفية. كبرنا أنا وهي معاً مما أتاح لنا أن نستشعر قرباً وراحة، متقبلتين جديتنا وتجهمنا المتبادلين المتناميين مع مرور الزمن وتقدمنا في العمر. فارق العمر بيني وبين جوري عمق انتباهي تجاه فروقاتنا المصائرية، الرغابتية والسلوكية.

في أول أيام انضمام جوري لنا، كانت تحرص على الاحتفاظ بكل وأي شيء نتخلى عنه في المنزل، لدرجة أنها كانت أحياناً تستأذنني في الاحتفاظ بقطع الشحم التي أستأصلها عن اللحم وقت الطبخ حتى تتمكن لاحقاً من طبخها لنفسها. أخبرت جوري مراراً وتكراراً أننا جميعاً نشترك في طعام هذا البيت وأن عليها ألا تقلق أو تستشعر الحاجة لتخزين الطعام. احتاجت جوري لما يزيد عن السنة كي تستشعر شيئا من الأمان، وتبدأ تمارس حياتنا “الطبقية” التي نفصل فيها اللحم عن شحمه ونرمي خلال أيامها فوائض خزاناتنا المليئة بالرفاهيات.

لطمتني ذكرى مؤلمة بعد أول مرة طلبت مني جوري الاحتفاظ بفائض طعام، ذكرى لم أكن أتصورها لا تزال تسكن عقلي: في أول أيام قدوم صفية لمنزلنا، فصلت هي صحناً وكأساً لنفسها لا تستخدم غيرهما، وحين سألتها عن ذلك، أخبرتني، كأنها تشرح واقعاً طبيعياً، أن العاملات لا يأكلن في صحون “الأسياد”.

أتذكر وجع روحي يومها، إلا أن شبابي المرح سريعاً ما طرد الألم وتضاحك مع صفية مخبراً إياها أنها فرد من العائلة وأننا جميعا ًنأكل في صحون واحدة وعلى مائدة واحدة لو أنها رغبت بالانضمام لها، وهو عرض بقي مستمر لعشرين سنة، تجاوبت معه صفية مرات قليلة تعد على الأصابع. حتى حين تعجننا الأيام وتوحد حيواتنا، يبقى الفارق الاقتصادي اللعين حاجزاً جباراً بين الأرواح، كأنه لعنة بشرية لا تزول.

نحتاج، خصوصاً في منطقة الخليج والشرق الأوسط، لقوانين صارمة ولربما خارقة لتحكم ظروف وتحفظ حقوق العمالة المنزلية، فالوضع الغريب عندنا، المتمثل في الإقامة الدائمة لهذه العمالة في منازلنا وافتراض استمرار خدمتها لنا دون تحديد ساعات عمل واضحة في اليوم، هذا الوضع يتطلب صرامة تشريعية تنظيمية، بل ويتطلب فلسفة قانونية إنسانية تستطيع أن تسيطر على وضع غير مرئي، على علاقة عمل في منزل مغلق الأبواب وخلال أيام مستمرة يصعب تفريق ساعات العمل من ساعات الراحة خلالها.

الأهم من كل ذلك أن هذا وضع يتطلب ثقافة إنسانية حقيقية عميقة، ثقافة ثورية تخلع عن هذه العاملات “اليونيفورم” الكريه الذي تقسرهن عليه الكثير من الأسر، الذي يحولهن إلى كائنات ميكانيكية متشابهة عند الكثير من الناس. نحتاج لثقافة توفر لهن أبجديات حقهن الإنساني في التفرد والحرية وعلى رأسها، وإن بدت هامشية، حرية الملبس والمظهر.

العاملات في غرفهن الصغيرة، ربات المنزل في غرفهن الوثيرة، كلنا في الهم نساء، من عند هذه النقطة يجب أن نبدأ حوارنا الإنساني الحقوقي. فقبل الكلام عن الحدود الدنيا للأجور، الحق في حرية التنقل، الحق في الاحتفاظ بكافة الأوراق الرسمية وأهمها جواز السفر (الكثير من أرباب العمل يأخذون هذه الأوراق من عاملاتهن)، حق تحديد ساعات العمل، حق الإجازات الأسبوعية والسنوية، الحقوق المادية لنهاية الخدمة، الحقوق الأمنية لروح وجسد العاملة، وغيرها الكثير، لابد أن نتحدث عن حقوق هذه العاملات كجزء لا يتجزأ من حقوق نساء العالم أجمع.

لنتذكر جميعاً، نحن وعاملتنا في المنزل، أننا نساء نحيا في عالم ذكوري عنيف، الفرق بيننا ضربة حظ جينية، لقاء بشري عشوائي، جعلنا في الطابق العلوي وهن في جناح “الخدم”.

إذا تذكرنا جميعاً هذه الحقيقة، وأن لا فضل حقيقي لنا في مواقعنا الحياتية المرفهة، سنتمكن من أن نصبح أكثر حقيقية، أكثر رحمة، أكثر مراعاة لهؤلاء العاملات المنهكات القادمات من خضم ظروف عسيرة ليخدمن في بيوت مرفهة يعلمن حق العلم أن عملهن طوال حياتهن لن يشتري لهن شبيه لها أو لحيوات سكانها.

هذه الواقعية وهذه الرحمة لا يفعلها قانون، إنما تحققها ثقافة عميقة ومواجهة حقيقية لقيمتنا كبشر وجدنا أنفسنا حيث نحن.. بمجرد ضربة حظ.

اترك تعليقاً