قدر غريب هو قدرنا في هذا الشرق الأوسط، أن تكون خياراتنا كلها بين سيئ وأسوأ، أن يغيب الخير في الشر الكثير، وأن يتوه الشر في ما هو أشر منه، حتى أصبح الشر خيرًا، واختفى الخير الحقيقي اللّامع في ضبابية مشهد مكوناته كلها مقلوبة. ولأنه قانون فيزيائي لا يمكن التضاد معه، سرعان ما حل الديكتاتوريون في قوالب الأبطال التي خلت من قاطنيها، فتحول الأشرار الى أخيار، وتأسّى بشر اليوم على طغاة الأمس، وتحسر الجميع وندموا أن ليتنا بقينا على مجانيننا، أن أتانا من هم أكثر منهم جنونا.
هو قدرنا على ما يبدو، أن نحدد مواقفنا بقياس الشر فقط، فلا مكان للخير في شرقنا الأوسط الملتهب هذا. عدمنا تماما المواقف المثالية الواضحة، فقدنا الوجود الحقيقي للخير الصريح، أصبح الآن لدينا شرير وشرير أكبر، ديكتاتور وديكتاتور أخطر، كارثة ومصاب أفدح، وعلى هذا الأساس تشكلت مواقفنا المائعة المبهمة. ندور نحن وندور في دائرة مؤامرات وتحالفات واتفاقات تُبرم على روائح الدولارات المغموسة في البترول، يعتقد أصحابها أنها تعقد بعيدا عن الأعين تحت الطاولة، غير مدركين أننا جميعا معهم أسفلها، نرى أياديهم المغموسة في الزيت والدم، ولا نملك إلا أن نختار أقل الأيادي قذارة، أهونها تلطخا بدمائنا وبترولنا، أخفها رائحة.
كيف أصبح بشار الأسد محاربًا للإرهاب، ومتى تحوّلت أجساد المدنيين الى مجرد «أضرار تبعية» لهدف أسمى وأهم؟ كيف تصاعد التعاطف مع قَطر بعد حصارها حتى أصبحت رمز الدولة الصغيرة المقاومة، وكيف أصبحت قناة الجزيرة رمز الإعلام الحر، وقَطر وقناتها قد أصابتا جيرانها من دول الخليج والأبعد من بقية الدول العربية بما أصابت وما أقدمت؟ متى أصبح المغتال علي عبدالله الصالح شهيدا ورمزا لتحرير اليمن ورفاهه، وهو الذي تنقل في تحالفاته بين الأطراف المتنازعة، على ما تأتي به ريح مصالحه؟ متى وكيف وأين ولم، بأي عقل أو منطق، أصبح اليوم الكلام صريحا عن التطبيع مع العدو الصهيوني من حيث كون هذا التطبيع الحل الأمثل للوضع العربي الخائب، بعد أن فقدت الشعوب ليس فقط إيمنها وآمالها إنما ما تبقى من نخوتها كذلك؟
ستجد نفسك وأنت تتضاد وكل فكرة أعلاه ليّنًا تجاهها، ستسمع نفسك مبررا للمؤمنين بها قادرا على رؤية وجهة نظرهم مهما تضاربت، وكل مبدأ أخلاقي وفكري آمنت به أنت ذات يوم، لِمَ؟ لأن الحق الواضح غاب في طيات الشر الحالك، هذا الشر الذي تضخم واستقوى في منطقتنا حتى أصبح كما الثقوب الكونية السوداء، يبتلع كل ما حوله غير تارك للخير أو حتى للحياد فرصة بقاء. في مقاومتي لهذا الشر الحالك، لم أستطع في يوم تفهّم هدف ديكتاتور يقتل شعبه مهما حسن هذا الهدف، لم أتمكن من نعي سياسي متلون على أنه بطل شهيد، وإن لم أشمت في موته أو أسعد به، لم ولن أستطيع أن أتقبل محتلا صفيقًا مهما بلغ عظم مصلحتي إلى جانبه، إلا أنني سقطت بكل تأكيد في مصيدة الاختيار، بين الكارثة والمصاب الأفدح، حين أتيت لأحْزِم أمري في الأزمة الخليجية. نعم كان مِن قَطر وجزيرتها ما كان، ولكن هل الخلاف والشقاق والعزل والحصار هي الحل؟ هل يحتمل الخليج بدويلاته الصغيرة المتراصة على ضفته هذا الصراع؟ هنا وجدت نفسي معنونة: «متعاطفة مع قَطر» ومهما حاولت أن أبين أنه ليس تعاطفا مع طرف بقدر ما هو اعتراض على تهور طرف آخر، بقيت معزولة في عنواني حتى صدقته وشعرته وآمنت به. أحاول كل يوم أن أذكّر نفسي بالموقف الحقيقي، فتدفعني حماقة ظروف هذا الشرق الأوسط الى اتخاذ موقف غير أوسط، لا أنا براضية عنه ولا أنا بقادرة على رؤية مخرج منه، أي ثقب أسود يلتهمنا بلا رحمة؟