كنت أرى هذا اليوم يأتي لاهثاً من بعيد، بالصهيل والسليل، كنت أرى غبرته قائمة وظلمته مقبلة لتحول نهاراتنا سواداً قاتماً، كنت بانتظار هذا «البف»، يوم نرتطم بالقاع بذلّ فلا نصعد، تركن كرامتنا جثة هامدة على ذلك السطح البارد العميق. كل يوم أرى «العتمة الباهرة»* حثيثة الخطى، ترتفع كموجة تسونامي قاتلة، أفزع بكل ضعفي الإنساني، أصرخ بكل حبي للحياة، فيقولون العيب في صرختك، فالموجة خير وستغسلنا طهوراً، وها هي بوادرها قد ظهرت، رذاذها الخفيف التصق جروحاً في الجباه وكدمات في الجناب وألماً لا يضاهى في الكرامات وجروحاً لا تندمل في الثقة.
قالوا لنا صوتوا للقلاف ابتغاء مرضاة الله، انتخبوا الطبطبائي ابتغاء جناته، ففعلنا، واليوم بعد أن حصل ما حصل، هل لعاقل أن يخبرني كيف سيوصلنا هؤلاء إلى جنات الخلد، وأي جنة هي جنتهم بعد أن خلقوا جحيماً ساعراً على الأرض لا يبقي ولا يذر؟ هذان يدخلان الجنة وعبدالله النيباري في النار؟ هل من عاقل يحدثني بما يعقل؟ أود أن أتحصل على جواب شاف يقول لي إن هناك «شمة» منطق في «فعائلنا»: ماذا استفاد الشيعة الذين صوتوا للقلاف والسنّة الذين صوتوا للطبطبائي بمعية نسبهما للرسول الكريم؟ ماذا قدما للكويت أو حتى لطائفتيهما أو لنسبهما الطاهر؟ أما الحزن الحقيقي فيأتي من واقعية أنه في الانتخابات القادمة، ستخرج علينا الوجوه نفسها، ستتدحرج الأسماء عينها، عمائم ولحى وعصي، وبشوت ودشاديش وعقل، كلها ستتهادى إلى القاعة المشرفة، لتنهش في شرفها باستخدام ذات المنطق… فالله يريد ذلك والرسول يريد ذلك، حسب ما أخبرونا، وأنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد.
ليس لدي أدنى أمل في التغيير، فنحن طائفيون تربيةً وتعليماً وتخويفاً وترهيباً وترغيباً وحتى نخاع النخاع، ونحن نباع ونشترى، و»السوم» عال والإرادة ضعيفة، هناك من يشترينا بشيك، وهناك من يساوم علينا بحقائب وهدايا ثمينة، هناك من يسفرنا علاجاً سياحياً وهناك من يجنسنا وينهي معاملتنا، هناك من يوظفنا ويسكننا ويطببنا ويزوجنا و»يدلعنا ويشخلعنا»، ثم هناك من إلى الجنة يدخلنا، وإلى الرب يوصلنا وبالشفاعة يعدنا، تلاحظون؟ ترى البيع قوي والسعر مرتفع والمقاومة تصطك ركبتاها، لذا، وبما أن ذات الأسماء والسحن ستقبل علينا، وبما أننا نأمل من الزمن سحره في محو هذه الفضيحة من أذهان العالم، فلنتخذ الإجراءات اللازمة التي تقينا المقبل، وهو آت لا محالة.
أنا شخصياً أقترح، وبجدية مطلقة، إنشاء مكتب اختصاص نفسي في مجلس الأمة، مثل مكاتب الاختصاصيين الاجتماعيين في المدارس، يتعامل مع حالات العنف عوضاً عن العسكريين الذين أسقط في أيديهم، يقدم دورات سنوية ودروسا خصوصية (ون تو ون) في كيفية التحكم بالغضب وتطوير القدرة على استخدام الأذن ثم اللسان دون اليد مطلقاً، ولا مانع من الإبقاء على «جاكيتين… ثلاثة» من اللون الأبيض الذين يلبسون بالعكس لتعليم من لا يفهم بالكلام كيف يستغني عن يده في إيصال فكرته للآخرين.
في مقالي السابق تحدثت عن المرض النفسي الذي تعانيه نسبة لا بأس بها من الكويتيين في جنوحهم إلى العنف وتقديسهم للدمويين، وكأن القدر يريد أن يؤكد نظريتي، فانفجر الوباء في بيت الأمة وبين نوابها، وهذا المرض لعمري لعين وعلى أكثر من مستوى، فهو ليس فقط وباءً فتاكاً، لكنه وباءٌ بائدٌ قضى عليه تطور الزمن وتحضر الإنسان وتقدم فكره، تماماً مثلما قضى التطعيم على الكوليرا، ظهوره بيننا دلالة مرعبة على فئرانه التي تحمل فيروساته، فئران ظلام لا نراها ترتع بيننا وتنام في بيوتنا، حتى سلمتنا وأسلمتنا إلى وباء فتاك انتهى عند كل البشر عدانا بفقرنا الفكري وتلوث قلوبنا، تماماً كما يسلم الفقر والتلوث مواطني الدول النائية للكوليرا المنقرضة. إذا لم يكن من أجل الكويت والمصلحة العامة، فليكن من أجل بيوتنا ومصالحنا الخاصة، فلنفكر دقيقة قبل أن نبصق تصويتنا الطائفي والقبلي على الورقة: «يسوى»؟ هل فعلاً هذا ما يريده الخالق لنا ومنا؟ هل خُطى هؤلاء توصل إلى الجنة؟ هل يمينهم التي رفعت العقل وتكورت في لكمات وانفتحت في صفعات هي التي ستمتد لتستقبل كشوف أعمالهم يوم الحساب؟ هل تحتمل الجنة، كما تتوقعونها، هؤلاء بعنفهم وغلاظة ألسنتهم وعُقلهم المرفوعة وقبضاتهم المدفوعة وكأن كلا منهم بلطجي يتصارع مع ربعه «في الهدة»؟ وإذا لم يكن من أجل كل ما سبق، فليكن لإيقاف بكاء سعود الورع على التلفزيون، خلاص، لم تعد الدموع والخلفية الموسيقية الحزينة محتملة، أرجوكم، توقفوا حتى يتوقف الورع، وحتى نعيش… نريد أن نعيش.
* عنوان رواية الطاهر بن جلون «تلك العتمة الباهرة»