جـــن

كتب أحدهم على «تويتر» يقول: «أقبح منظر ممكن تشوفه بنت تضحك بصوت عالي بمكان عام» ليرد عليه آخر: «هذي غالباً تكون تدخن». لفتتني جداً هذه التغريدة لاستشعاري صدق مشاعر صاحبها، هو فعلياً يتأذى -على ما يبدو- من ضحك فتاة بصوت عال في مكان عام، كما عديله الذي يتأذي من منظر فتاة تدخن. ذكرني ذلك بشعوري الشخصي العنصري الذي ما كنت لأفصح عنه مسبقاً لولا موضوع هذا المقال، الذي يبدو أنه سيفضح عنصريتي، فأنا شخصياً لا يسوؤني شيء كما ضحكة الشباب الذكور العالية الممتدة المشهورين بها تحديداً شباب الخليج، فتجدها تخرج عالية كالصفير، ممتدة كرنين جرس تشابكت كهربائياته، متموجة بما يوحي بشيء من الخلاعة الذكورية التي تشير بضوح إلى أن موضوع الضحك «قصة عاطفية». ما كنت سابقاً لأحدد، بهذه الصورة المنحازة، واقع الأمر أنني أنزعج من الصوت العالي عموماً أياً كان جنس مطلقه، وواقع الأمر أنني أجد في الصراخ إزعاجاً يحيد بي عن فهم الموضوع، وواقع الأمر أنني أهتم بأسلوب الحوار وأساليب التعبير عن الضحك والغضب أكثر من فحواها جميعاً، وهو ما قد يعيب تفكيري في الواقع، فالأسلوب كمؤثر شخصي لدي، قدره قدر تأثير الموضوع بحد ذاته. إلا أنه رغم كل وقائع الأمور هذه، لا يمكنني أن أنكر أنني قادرة على تحمل ضحكة فتاة مرتفعة الرنة أكثر بكثير من قدرتي على تحمل ضحكة فتى بصوته الصفيري المتموج الذي لا يطلقه عادة إلا إذا كان بين جمعه الغفير من الشباب «الكول» أمثاله.
ما كنت لأصرح بهذا الانزعاج المتحيز جنسانياً سابقاً، لأنني لا أود أن أعترف بأن عقلي وجسدي يمكن لهما أن يردا الفعل برد فعل عنصري، أحاول دوماً أن أذكر نفسي بضرورة التزام الحياد فيما أكره كما ما أحب، فأقاوم تضايقي ورد فعلي التمييزيين. إلا أن قراءة التغريدة أعلاه جعلتني أكتشف أنني في الواقع أرضخ لعنصرية خفية كذلك، فعدم استغرابي نشر التغريدة وعدم تفكيري مطلقاً في كتابة تغريدة مساوية لها بالمقدار ومضادة لها بالاتجاه؛ أي أن أشير إلى انزعاجي من الصوت الذكوري الصفيري الحاد تحديداً، يشيران إلى قبول خفي ترسخ في الوجدان لأن يكتب الرجال ما يكتبون وأن نتفادى -نحن النساء- كتابة ذات الفحوى وبذات التعابير. حتى العنصرية أصبحت مقبولة أكثر حين يقدمها رجل، كأنها أصبحت حالة طبيعية ملازمة لذكوريته، أو كأن ذكوريته تحميه من تلطيخها لأخلاقه وسمعته المبدئية.
أما إذا أبدت امرأة عنصرية في المشاعر أو ردود الأفعال، فإنها دوماً ما تُذَكَّر بقضيتها، بهزائم بني جنسها، وبضرورة التزامها الخط الأخلاقي غير المنحاز دوماً حفاظاً على سمعتها المبدئية، ولربما «الشرفية» كذلك. حالة غريبة معقدة خلقتها اختلالات واضحة في التقييم والتفكير والحياة، ولأنني لا أحب الحالات الغريبة المتناقضة، فها أنا أقولها كذلك، الصوت الذكوري الحاد الصفيري الممتد بضحكته الرقيعة هو أكثر صوت مزعج في العالم، أكثر صوت وقح ومسيء ومنفر. عنصرية مني؟ لا بأس، مرة عن خواطرنا النسوية المكسورة.
ولأن العنصرية بالعنصرية تذكر، أتتني صغيرتي قبل أيام وهي غارقة في ضحكتها غير قادرة على تمالك نفسها. شاهدت الصغيرة فيديو للشيخ عثمان الخميس، شيخ دين كويتي، يتحدث فيه عن موضوع حرمة قيادة المرأة للسيارة، موضحاً أن القيادة كفعل بحد ذاته ليس هو المحرم، إنما ما يترتب عليه هو المحرم، حيث إن الفعل يؤدي مثلاً إلى أن الفتيات اليوم أصبحن يقلدن الشباب، حيث مثلما يفوت الفتى على أصحابه ليصطحبهم لشرب قهوة في مكان عام، أصبحت الفتاة إذا تململت، تفوت على صويحباتها هي كذلك لتخرج بهن إلى مكان عام ليشربن القهوة أو العصير. الصغيرة الضاحكة لم تفهم تماماً، حيث بقي الحوار يأتي ويذهب بيننا، تحاول هي أن تفهم أين خطورة «المترتب على القيادة» وكيف أن شرب قهوة مع الصويحبات أصبح إثماً عظيماً، وأحاول أن أوصل لها فكرة تبدو خلفها بقرون طويلة، فكرة لم تعرفها في يوم، ولذلك لا تفهمها حقيقة. امتدت ضحكاتنا، أنا والصغيرة، ليس فعلياً على الموضوع، ولكن على رد فعل ابنتي التي ما كانت قادرة على فهم القصة على أي مستوى من المستويات. بدا حواري وإياها حوار طرشان، أقول شيئاً، فتتسع عيناها السوداوان الجميلتان، ويمتد بوزها إلى لأمام وينعقد حاجباها في حركتهما المعتادة حين تفكر، ثم تنفجر ضاحكة أن «ماما، ماذا تقولين.. لا أفهم شيئاً؟» فأعيد الشرح وتعيد الاستغراب، لتعلو ضحكاتنا مجلجلة في أنحاء البيت. لو كان صاحب تغريدة بداية المقال حاضراً معنا لتأزمت نفسيته كثيراً المسكين، ليس فقط بسبب أصواتنا الصاخبة، ولكن بسبب حركاتنا الضاحكة المريبة، وكأن جناً قد مسني والصغيرة، فما عدنا قادرتين على التحكم في أنفسنا. لربما هو جن فعلاً ذاك الذي مس البشرية كلها ليصنع بفكرها ما يصنع. اللهم احفظنا..