جزرة

يختبر البرنامج العلمي الترفيهي المعنون “100 إنسان” والذي يعرض على موقع “نيتفليكس” الجوانب السلوكية البشرية من خلال عدد من التجارب العلمية اللطيفة والمؤثرة. تختص كل حلقة من البرنامج في مجموعة من السلوكيات البشرية، حيث تختبر هذه الحلقات تأثير إنسانيتنا على سلوكنا البشري وتستطلع المؤثرات التي تجعلنا نتحرك باتجاه ما أو بعكسه. في حلقة مثيرة للانتباه، يتم اختبار تأثير الترغيب والتهديد والتعذيب على السلوكيات الإنسانية ومدى فاعلية هذه المؤثرات على برمجة سلوكيات الإنسان باتجاه معين.

تبدأ الحلقة بتمرين “تمرير الكرة”، حيث يُطلب من عدد من الأشخاص المصطفين في صفوف متوازية تمرير كرة خفيفة الوزن على كل أفراد طابورهم ذهاباً وإياباً ليكون الفوز من نصيب الطابور الذي ينجز أكبر عدد من الأشواط للكرة في أسرع وقت. أعيد التمرين عدة مرات بحيث يتم التحفيز مرة عبر وعد الفائزين بإثابة كبيرة ومرة عبر تهديد الخاسرين بعقاب تعذيبي. وفي حين أن الحماس أخذ المشتركين في المرة الأولى لتمرير الكرة بأسرع ما لديهم من مقدرة وقد ارتسمت الضحكات على وجوههم، إلا أن الرعب كان مسيطراً في المرة الثانية محولاً الحماس إلى ذعر انفعالي جعل الكرة تمر أكثر من مرة ونصف أسرع من سابقتها. لقد كان التهديد ناجعاً ومؤثراً إلى حد كبير.

تتحول الحلقة بعد ذلك لاختبار تأثير الوعد بالمتعة أو العذاب على السلوكيات البشرية، حيث يتبين أن البشر يتأثرون بالوهم الإمتاعي أكثر من الوهم التعذيبي، ذلك أنه حين تم وضع الأشخاص تحتplacebo effect أو التأثير الوهمي لإشعاع ليزر يفترض أنه مؤلم، لم يشعر أي منهم بالألم، إلا أنه حين تم وضعهم تحت إشعاع ليزر وهمي يفترض أنه سيحقق لهم الاسترخاء والمتعة، فإنهم سرعان ما أقروا بتسلل تلك المشاعر الرائعة لأجسادهم ونفوسهم، لقد تبين أن الوعد بالمتعة أكثر تأثيراً وتحقيقاً للهدف من الوعد بالعذاب.

توالت الاختبارات على مدى الحلقة والتي كل نتائجها رمت إلى أن تأثير المتعة والتحفيز الإيجابي أكبر بكثير من تأثير التعذيب والتهديد السلبي أو حتى من تأثير التحفيز الإثابي الفقير في الجانب الامتاعي، كالإثابة بمبلغ من المال مثلاً ولكن تحت ضغط شديد. في مثل هذه الحالة الأخيرة لوحظ أن الإنتاج البشري والراحة النفسية كلاهما ينخفضان بشدة تجاوباً مع انخفاض درجة الإمتاع. خلصت الحلقة إلى أن التعذيب وإن كان منتجاً أحياناً كما تبين من التجربة الأولى لتمرير الكرة، إلا أنه غير مؤثر على المدى البعيد، كما أنه يتسبب في إضعاف الذاكرة، تقليل الإنتاج، وسيادة المعلومات المغلوطة التي سيندفع “المعَذبين” لتقديمها للتخلص من ذلك التعذيب.

يستحضر هذا الاستنتاج الخطاب الديني العام إلى الذهن، حيث يفرد الخطاب الثيولوجي لكل الأديان، خصوصاً الحديثة منها، مساحة كبيرة للثواب والعقاب كمحفزين للسلوكيات البشرية وكمبرمجين للتفكير والفعل. يعتمد الخطاب اليهودي والمسيحي والإسلامي في معظمه على الترهيب والترغيب لتحفيز سلوكيات معينة وللنهي عن سلوكيات أخرى. وفي حين أن المؤشرات العلمية تدل، كما في البرنامج أعلاه وغيره من المصادر، على أن الإثابة لها تأثير أقوى، إلا أن التهديد بالعقوبة يبدو أحياناً بالغ التأثير. في حوار لي مع صديقة لطيفة سألتها، لم تسعين بكل قوتك للوصول إلى الجنة؟ ما هو تصورك حولها وكيف ترين حياتك الخالدة فيها؟ لم تستطع صديقتي المتدينة إعطاء توصيف واضح للكيفية التي ستكونها حياتها الممتدة في نعيم الجنة، إلا أنها خلصت في النهاية إسكاتاً لإلحاحي إلى أن رغبتها الملحة في الوصول للجنة ترتكز على رغبة أكثر إلحاحاً لتفادي الوصول إلى النار، أي أنه إذا لم يكن لديها أي تصور لحياتها في الجنة يحفزها للوصول إلها، يكفيها تحفيزاً تفاديها لعذاب النار. بدا في هذا الحوار أن الترهيب كان سيد الموقف من حيث تحديد سلوكيات صديقتي وطريقة تفكيرها.

إلا أن للترغيب قوة لا تقهر كذلك، فالانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم في عمليات يعتقدونها دفاعية عن أديانهم هو يقدمون على ذلك رغبة في الجنة لا تفادياً للنار. مثال على ذلك ما يدور في الخطاب الإسلامي المتطرف، فمن المتعارف عليه في أوساط المتشددين أن من لا يفجر نفسه لا يذهب بالضرورة إلى النار، إلا أن من يفجر نفسه سيذهب بكل ضرورة إلى الجنة، إنها الرغبة في متع الجنة، في الخمر والنساء والقصور والحياة الأبدية المنعمة تلك التي تدفع هؤلاء للتخلي عن حيواتهم ولحصد أرواح كثيرة مع أرواحهم في مثل هذه العمليات البشعة المرعبة، هم يقتلون أنفسهم لا رغبة في تفادي النار، فهناك طرق أخرى عدة لتفاديها، ولكن “استماتة” للوصول إلى الجنة والتنعم بكل مغرياتها.

وفي حين أن الخطاب اليهودي والإسلامي لا يزال يعتمد كثيراً على الترهيب، تغير الخطاب المسيحي العام (الكاثوليكي لا يزال ترهيبياً في عمقه) إلى خطاب ترغيبي تحبيبي في معظمه. الخطاب المسيحي يعتمد كثيراً اليوم على لغة الحب والرحمة وأن الله يحب الإنسان وإن كان الإنسان لا يحب خالقه، وصولاً إلى فكرة أن البشر كلهم سيكونون في مكان أفضل بعد موتهم، وكأن التعذيب لم يعد له مكان في الفلسفة المسيحية العامة. تطور هذا الخطاب أتى نتيجة لفهم أفضل لسيكولوجية الإنسان التي يبدو أنها تتجاوب مع الترغيب بشكل أكبر ولفترات أطول. فالترهيب قد يكون ناجعاً بقوة ولفترة، إلا أنه بعد مرور الزمن، يرتخي تأثير الترهيب، ويعتاد الإنسان الخوف، وينزلق مجدداً إلى “الخطيئة”. الترغيب أنجع وأقوى، فالرغبة بالجنة ونعيمها تصحب الإنسان، خصوصاً المحروم، مدى حياته، وتمده بالقوة في مواجهة ظروفه الدنيوية، ليستطيع هو الاستمرار في حياته مهما بلغت صعوبتها على وعد بالراحة والسعادة الأخروية.

لربما من هذا المنطلق، يجدر بالقائمين على الخطاب الديني الإسلامي إعادة النظر في حدة الترهيب التي يَثْبُت لنا كل يوم أنها ليست مؤثرة بالحد المطلوب وكذلك إعادة النظر في فحوى وتوجيه الترغيب، ألا يكون منصباً على الترغيبات الحسية التي تجعل من الإنسان كائن جشع نفسياً وجسدياً طوال الوقت، كائن ينظر للرغبات الممنوعة على أنها رجس في الدنيا وإثابة في الآخرة مما يخلق لديه حالة من التناقض الفصامي ويحوله إلى آلة رغبة تتقصى أي طريقة “حلال” لإيفاء هذه الرغبة، كما وبإمكانها أن تحوله إلى آلة دمار شامل تدفع به لارتكاب أبشع الجرائم إسراعاً في الوصول الأخروي لهذه المتع الأبدية. لابد أن يتغير هذا الخطاب الذي يستجدي نقاط ضعف الإنسان، الذي يعتمد على إثارة خوفه أو رغبته، إلى خطاب آخر يخاطب عقله، منطقه، ضميره وقناعاته. مثل هذا الخطاب يصنع من الإنسان مؤمن أقوى، أكثر أخلاقية وأصدق التزاماً بالواجب الديني المطلوب منه، هو خطاب يُنتج إنسان صادق مقتنع، غير مسير بالخوف أو الرغبة. حتى يكون المجتمع قوي ومنتج، يجب أن يكون مجتمع صادق، متصالح مع نفسه، حقيقي الوجه دون أقنعة، أن يكون الأشخاص مخيرين ذويي إرادة، يختارون عن قناعة لا عن خوف أو شهوة، أن يكونوا كائنات إنسانية ذات وعي لا كائنات بشرية مقتصرة على حسيتها، تمشي خلف جزرة بلا حساب. المجتمعات المتحضرة لم تعد تحتاج جزرة تخاطب شهوتها، ولا سوطاً يخاطب رعبها، المجتمعات المتحضرة تحتاج لفكرة منطقية ومنطق فكري حتى تصنع من كل بشر فيها.. إنسان.