لا ترهقوا الفتيات الصغيرات بتعليقاتكم المؤلمة، لا تحملوا طفولتهن عبء مظهر فرضته ذكورية مريضة وأحكام مجتمعية مهينة لا ترى في هذه الفتيات سوى مشاريع زوجات يحتجن أن يبقين قيد “شرط السوق”، عيب أن يقال لطفلة في العاشرة من عمرها: أنت سمينة، تحتاجين أن تخففي وزنك، لا أعتقد أن هناك وصف أخف لهذه الجملة التي تدخل في باب “تعذيب الأطفال” سوى “عيب.”
أكاد “أسمع” الذهن العربي الذي قد يمر على هذا المقال ساخراً: “مبالغات وسخافات”، فهكذا هو الحكم دائماً على قضايا النساء والفتيات، كلها قضايا سخيفة ومبالغ بها، حيث لا تستوعب العقلية الذكورية التي تدير كل حيواتنا وأفكارنا وحتى مشاعرنا وأحاسيسنا المدى الذي قد تأخذه جملة “يا بدينة” في روح طفلة صغيرة، تلك الجملة التي أول ما تستدعي، هي تستدعي انتباه الطفلة لجسدها، تقول لها أن قيمتها في هذا الجسد الذي هو أول ما “يدينها” ويطلق الأحكام عليها.
ولعلي كتبت كثيراً سابقاً، وأراني سأبقى أكتب لآخر نفس، عن تلك العذابات المخبأة خلف ابتسامات طفولية حرجة اغتصبتها ملاحظات قميئة وتعليقات ساخرة من “كبار حمقى” تجاه صغيرات تاهت طفولتهن في دروب بحثهن عن أجسادهن وتعذبهن بترويضها. هذا التيه لا ينتهي وهذا البحث لا يصل إلى نهاية عند هذه الصغيرات اللواتي مهما كبرن بالعمر تبقى في نفوسهن ذات الطفلات المعذبات بقطعة شوكولاته لا يستطعن تناولها، المنهكات بوجه دائري مليء، وسيقان طفولية بضة، أقنعهن المجتمع أن يكرهنها.
لن تفهم ما أقول سوى امرأة مثلي، امرأة كانت طفلة من فئة “تحت عادية”، النوعية التي تتندر عليها الصديقات والأهل في كل تجمع أو مناسبة، غير مدركين لإدراكها حديثهم، غير مستوعبين لاستيعابها كل همزهم ولمزهم.
لن تفهمني سوى من كانت صغيرة مختلفة مثلي، كبرت لتصبح مراهقة ذات شعر مجعد لا يمت لحريرية شعر بقية فتيات العائلة بصلة، ذات جسد بدا لها غاية في الضخامة بطوله الجريء وامتلائه الواضح، ذات قدمين ضخمتين بدتا لها كمركبين يشقان الطريق بلا لمحة من رقة سندريلا التي ما ميزها سوى قدميها الصغيرتين. كيف كان يمكن لي أن أجد نفسي وأحبها وأنا أحب سندريلا وقصتها؟
لم يكن لوالداي أن يحمياني طوال الوقت، فقد كنت، كما كل الأطفال الذين يخرجون للدنيا، عرضة لألسنة هم لا يسمعونها، ولصحبة هم لا يعرفون نفوس كل أصحابها. لازلت أتذكر “أبلة” التربية البدنية وهي تعزرني لعدم مقدرتي القفز على “حصان” ألعاب القوى: “سمينة وراسبة في المادة.” كنت متفوقة في كل مواد المدرسة، وكنت مهددة بالرسوب في مادة التربية البدينة لأنني، على حد وصف “الأبلة”، سمينة.
لم أرسب في المادة في الواقع، ولم أتأخر في التحصيل والنجاح وترك “الأبلة” القميئة خلفي في انطلاقتي نحو مستقبلي، إلا أن زاوية من روحي بقيت مظلمة، كلما سلطت بقعة ضوء عليها، ظهرت فيها صورة هذه “الأبلة” بشعرها القصير ونبرتها الحادة وقبحها الذي صوره عقلي لها وهي تلصقني بالزاوية المظلمة بسكين كلماتها: “سمينة وراسبة.”
اليوم أنا في أواخر الأربعين وعلى مشارف الخمسين، أحمل معي ما يزيد عن الثلاثين سنة زواج من رجل لم يرتاب للحظة في كزوجة بسبب من تخاذلي مع جسدي. لقد خرجت منذ سنوات طويلة خارج مساحة الراحة مع هذا الجسد وإلى اليوم لم أعقد صفقة رضا وتسامح معه ومع عيوبه.
وعلى قدر ما يضع هذا النفور من الجسد وعدم الراحة معه من العبء الكبير على شريك الحياة، على قدر ما تفهم هو وقدر دون أن يسألني، دون أن يرغمني على الذهاب لتلك الزاوية المظلمة الكريهة في روحي. سامح هو غضبي ونفوري وقدر خصوصية تعاملي مع جسدي وحاول أن يساعدني بجذبي للمرأة التي أنا هي اليوم، ومهما حاول، ومهما قال، ومهما حنا بنظرته ومسح بدفء كفه على شعري ووجنتي، بقيت الصغيرة الضخمة في الزاوية المظلمة تجذبني باتجاهها المعاكس، تترجى صحبتي، وبقيت دوماً أحن للعودة إليها. كيف أتركها هناك في الظلمة وحيدة؟
كبرت أنا سريعاً، شخت منذ كنت طفلة، عجوز أنا منذ العاشرة من عمري، ولم يكن ذلك بلا فوائد وحسنات. لقد ركزت جهودي وخططت طريقي وتركت قلق المظهر لمن تمتلكه أصلاً، وكان في ذلك ولا يزال الكثير من الراحة. إلا أنني كلما واجهت موقفاً ناقداً لصغيرة، مهما صغر قدره وحسنت نوايا أصحابه، ولمحت تلك النظرة التي أعرفها جيداً في عينيها أو تلك الابتسامة المنكسرة المحرجة التي خبرتها تماماً على شفتيها، أشعر برغبة عارمة في إيذاء هؤلاء الناقدين الأغبياء، الذين لا يعرفون أنهم بتفاهة وجهل تعليقاتهم يخلقون زوايا مظلمة كل يوم، يحبسون فيها صغيرات لن يكبرن أبداً، لن يتحررن مطلقاً.
اليوم عقدت معاهدة سلام مع زاويتي المظلمة، أقلعت عن محاولاتي المستمرة لإضاءتها، في خفوت ضوئها شيء من الراحة، في زياراتي المتكررة الكثير من الحنين والشجن. أحتاج أن أذهب إلى هناك بين فترة لأخرى لأسامح وأتسامح، ولكنني استسلمت للعتمة، وأصبحت، بكامل إرادتي، أطفئ المصباح قبل مغادرتي.