توبة

هو الحوار ذاته كل سنة، لكنه يأتي بنكهة مختلفة في رمضان هذا، خصوصاً بعد أن تحولت السعودية، كلاعب استراتيجي أيديولوجي سياسي وعسكري في المنطقة، من طريق الإسلام الوهابي المتشدد إلى طريق الانفتاح الحياتي والقراءات التقدمية للدين، وهو طريق فرض فرضاً على الشارع العام، قادماً من أعلى وصولاً إلى هذا الشارع، على عكس ما يحدث في حالات الأغلبية العظمى من الثورات الأيديولوجية التي يُثبّتها حدوث تحول فكري حقيقي وعميق في الشارع العام، والذي يقسر النظام على تغيير توجهاته. وعلى الرغم من أن هذا التحول لم يحدث في السعودية بالطريقة الأكثر أمناً، إلا أن كثيراً من المراقبين والمحللين السياسيين يرون أنه لم يكن لهذا التغيير أن يحدث أصلاً لو لم يأت من أعلى، وأن العالم العربي المغموس في محافظته التقاليدية وتشدده الديني لا يستطيع الخروج من ظلماته إلا بسلطة ديكتاتورية متنورة تدفع الشعوب الخائفة المنغلقة الكسولة فكرياً إلى منطقة أكثر نوراً. ما يقلق هو أولاً أن التغيير الذي يأتي بأمر يمكن له أن يختفي بأمر كذلك، أو- وذلك هو الأرجح- لا يأتي بأمر يتغير إذا ما تغير مصدر السلطة أو تغيرت درجة الخوف منها. تجلت هذه الظاهرة واضحة منذ بداية عهود الحضارات الإنسانية، ومثال ذلك حين غير أخناتون، فرعون الأسرة الثامنة عشرة، الديانة المصرية من متعددة الآلهة إلى وحيدة الإله قسراً وقوة، حيث حدث هذا التغيير الزلزالي فقط إبان حياته وكنتيجة للخوف والرغبة في نيل الرضا السامي، ليعود المجتمع المصري سريعاً وبأكمله لنظام الآلهة المتعددة بعد وفاة أخناتون. التغيير الذي يتم بالقوة لا يستقر سوى بالقوة. أما ثاني دواعي القلق فهو أن التغيير الذي لا ينال الفكر والأيديولوجيا في أعمق نقاطهما يكون تغييراً سطحياً، مضاره أكثر من منافعه، وتحولاته أكثر من ثباته، ونفاقاته أوضح من مبادئه. هناك كذلك مشكلة (تمثل جانباً إيجابياً في الواقع) يفترض أن تُقلِق السلطة التي تقسر شعبها على الخروج إلى النور، فالنور سينور كافة الجوانب، ولا بد له أن يثير شهية الناس لمزيد من الحقوق ويجرّئهم على مزيد من المطالبات، لربما تركيا مثالاً؟
لكن هذا ليس موضوعِي، كنت أحكي لكم عن حوار كل رمضان، حوار المجاهرة بالإفطار، وهو الحوار الذي تسمع فوقه صوت نقيق الصراصير لشدة الهدوء المحيط به هذه السنة بعد أن دارت شائعات حول توجه السعودية للسماح لغير الصائمين بممارسة حياتهم بحرية، وذلك كإضافة للتوجهات السابقة التي غيرت وجه المملكة المحافظ بشكل كبير، إلا أن الكرزة الكبيرة فوق المشهد بأكمله تجلت في الاعتذار الذي قدمه عائض القرني عن تشدد صحوته التي ذهب ضحيتها الآلاف، إن لم يكن مئات الآلاف، ما بين المجاهدين المقاتلين، وصولاً إلى الأشخاص العاديين الذين صعبوا الحياة على أنفسهم وعلى كل من حولهم اتباعاً لكلام الشيخ التائب اليوم. وها هي النظرة الدينية العامة تتغير لتنال كل «الثوابت» التي ما عاد منها ثابت اليوم. كل سنة يكتب كثيرون منا عن معضلة الصيام القسري في رمضان، إلا أننا هذه السنة نكتب وعلى أفواهنا نصف ابتسامة، ترى هل لا يزال لـ «المتدمنيين» الرؤية التحريمية ذاتها للإفطار العلني، وهل ما زالت جعبتهم تمتلئ بالإتهامات ذاتها بالتكفير لكل من يقول بحرية الإنسان في الإفطار العلني؟ ومن هؤلاء البعيدون عن المشهد الساخن، هل سيبررون لعائض القرني ويجدون له مخارج فكرية، أم سيرمونه تحت قطار الاتهام بالنفاق والخوف من السلطة؟ في هذا الزمن وفي هذه المنطقة العربية الساخنة الرهيبة العميقة، لا أمان لأحد، لا للوعاظ ولا للجمهور، الكل يسبح مع التيار.
المهم اليوم أنني، لربما كما العديد من الكتاب، أكاد ألحنها لحناً: الإجهار بعدم الصيام حرية لا يجب أن تحاسب عليها الدولة، لماذا؟ لأن الدولة ليست والدك أو والدتك، وهي ليست مؤسسة أخلاقية، الدولة مؤسسة سياسية مدنية تنظم علاقاتك بمن كتب الله عليك معاشرتهم على أرض وطنك. الإجهار بعدم الصيام حرية لا يجب أن تحاسب عليها الدولة، لماذا؟ لأن الحساب على العبادة وتأديتها متروك للرب الأعلى، والدولة ليست إلهاً، لا تملك إدخالك جنة أو ناراً، بل ولا تملك حق قسرك باتجاههما. الدولة لا توعظك ولا تنصحك دينياً ولا تهــدف إلى إدخالك الفردوس الأعلى. الدولة، خصوصاً في منطقتنا العربية، تريدك أن تعيش منتظماً في حياتك، كافي خيرك شرك، مستثمراً أموالك، موالياً حكاماً، مغنياً أناشيدك، وبس. قوانين معاقبة المفطر قوانين جائرة، مخالفة لأبسط قواعد حقوق الإنسان، حتى.. اسألوا الشيخ عائض القرني.