أسوأ الانتهاكات هي تلك التي تحدث في الظلام، هي التي تقع مع الغياب التام لأي شاهد إنساني عليها يحرك خوف المعتدي على نفسه وسمعته أو يذكره ببشاعة تصرفاته وابتعادها به عن الحيز الإنساني الطبيعي. غزة تدخل الآن هذه المرحلة المظلمة الخطرة، مرحلة “البرود الإعلامي” تجاه والتعود البشري على ما لا يجب أن يناله برود أو يطاله تعود. فبعد أكثر من مئة يوم من العدوان الوحشي على غزة، بدأ حتى أشد المتفاعلين مع القضية بالعودة لحياتهم الطبيعية بشكل كامل، وهذا ما لا غبار عليه، وكذلك بالتراخي تجاه أحداث القضية، وهذا ما يشكل خطورة كبيرة على الداخل الغزاوي.
الإعلام في عمومه يعشق الأحداث الضاجة، يجري إلى حيث الإبهار والحدث المجلجل والصوت العالي، وعليه، فهو يتفاعل مع الحرب وهي في تلك المرحلة التي أطلقت عليها الكاتبة والناشطة الإنسانية إيف آنسلر مرحلة Sexy، حيث القنابل تنير الموقع بأضواء الموت وحيث الحدث على أشده وحيث الكل منجذب للشاشة ليشاهدوا الحدث في أسوء مراحله. ترى ما هذا الجاذب الإعلامي للموت المرئي، للبشاعة المسجلة وللعنف منظوراً ومسموعاً صوتاً وصورة؟ أي مرض بشري يجمعنا في شوق مريض لرؤية العنف والموت وهما يحدثان في التو واللحظة؟ على المستوى الشخصي، بكل تأكيد علينا أن نواجه الواقع وأن نرغم أنفسنا، مهما بلغت بها مبالغ الألم، على متابعة الأحداث البشعة في غزة والتي نتحمل، بدرجة أو بأخرى، كلنا مسؤوليتها، إلا أن التساؤل حول جاذبية العنف هو موجه لفلسفة الترويج الإعلامي الحصري تحديداً من حيث تواجده المهووس في وقت الضرب والقصف والعنف ثم اختفائه المريب المشين في وقت التعامل مع التداعيات، في وقت محاولة توفير اللقمة، تطبيب الجرحى، دفن الموتي، التعامل مع الأمراض والأوبئة والتشرد والتداعيات البيئية الخطيرة للحرب، في وقت محاولة إعادة البناء والعودة بالمدارس والمستشفيات للعمل وإعادة تأهيل بنية تحتية مادية ومعنوية ونفسية منهارين تماماً، أين هو هذا الإعلام في وقت بدأ الحرب الحقيقية البطيئة المضنية المميتة بهدوء؟
نحن اليوم، على الرغم من استمرار القصف البشع على غزة، نلج مرحلة الظلام، حيث بدأنا نستشعر تخفف التغطية الإعلامية وبدأ عودة وسائل التواصل بمواضيعها السطحية إلى مجرى سيرها الطبيعي وبدأ تراخي الناس في التغطية والتواصل والتراسل حول المجزرة التي يبدو أن مئة يوم من استمرارها أدخلها في حيز الأخبار المعتادة. اليوم بالذات نحتاج ألا نعتاد، نحتاج ألا نبتعد برؤوسنا عن الصورة وألا نزيحها بأطراف أصابعنا عن الشاشة. اليوم بالذات نحتاج لأن نذكر أنفسنا أنه وبينما يخف وقع أخبار الصواريخ على صدورنا، هي في الواقع لا تزال تهدر على رؤوس أطفال غزة لتدفنهم أسفل أنقاض بيوتهم ملتحفين بأغطيتهم الملونة الطفولية. لابد أن نذكر أنفسنا أن اعتيادنا الخبر لا يخففه بشيئ على من يعايشونه، اعتيادنا صور الشهداء لا يقلل من ألم فقدهم في صدور محبيهم، فبالنسبة لأهل هذا الشهيد هو أول فقد قريب مباشر، أول جزع حارق في الصدر، أول عزاء لن ينصب له صوان وأول قبر لن يكون له مكان معلوم. نحن نرى الصورة كبيرة جمعية من بعيد، وأهل غزة يعايشونها بتفاصيلها من قريب، كل تفصيلة بذات مقدار الألم، كل فقد، كل تهجير، كل دفن، كل تعامل مع مصاب مستلقى على أرضية المنزل المتداعى بلا رعاية صحية ملحة كل تلك لها ذات التداعيات النفسية والمادية “الأولى” للعذاب والمعاناة والشعور بالامتهان وقلة الحيلة. كل صورة تمر علينا هي تجربة عذاب جديدة، وقعها على أهلها يشابه (ولا يساوي) وقع أول صورة رأتها أعيننا علينا، وعلينا ألا ننسى ذلك أبداً.
الظلام موحش، غدار، أبشع التصرفات البشرية تقع نحن ستره، ولذلك علينا دائماً أن نحاول محاربته ولو بإشعال شمعة باهتمامنا، بتواصلنا المكتوب والمنطوق، بالحديث المستمر، بألا نسمح للحقيقة أن تموت مرتين، مرة بقتلها بدم بارد ومرة أخرى بالسكوت عن هذا القتل أو بما هو أشد وأنكى، بالتبرير له. قضية فلسطين قضية سياسية حقوقية أممية، ولكنها في عمقها قضية إنسانية، قضية حق مسلوب وعدالة غائبة وظلم يسحق القلوب، وهي، في ذلك مثلها مثل كل قضية إنسانية أخرى في المجتمع الإنساني صغرت أو كبرت، تموت بالصمت عنها ليتراكم إثمها وتصيبنا لعنة السكوت عنها. ولأن الظلام بالظلام يذكر، علينا أن نزيح الستار عن السودان كذلك، علينا أن نتحدث حول الجرائم البشعة التي تحدث هناك في وسط عتمة فظيعة وغياب مريب للإعلام وكأن العالم بأكمله يتآمر على السودان. قد لا نستطيع أن نساند كل المقهورين ونزيح كل الظلم ونبدد كل الظلام، لكننا نستطيع أن نضيئ شمعة، نضيئها بصورة، بتغريدة، بمقالة، بمقابلة، برسالة تلفونية، بكلمة حق نرفض أن نبلعها فنلفظها خيطاً من نور. تكلموا كما تكلمتم أول مرة، احزنوا كما حزنتم أول مرة، واغضبوا كما غضبتم أول مرة، أهل غزة لا يزالوان يعيشون تلك “الأول مرة” مراراً وتكراراً بعذاباتها وقهرها وحرقتها بلا توقف. لا تتركونهم، لا تتركوا أهل السودان، لا تتركوا أهل اليمن، لا تتركوا المظلومين حيثما كانوا وسمعتم عنهم، فقد تنقذهم شمعة، شمعة على هيئة كلمة.