نحتفي يوم كتابة هذا المقال بعيد زواجنا الثالث والثلاثين، نحتفي وحدنا، بعيداً عن الأهل والأحباب في بلد الضباب في رحلة سريعة لزيارة صغيرتنا التي تدرس هناك والتي ضربنا من خلالها، أي تلك الزيارة، عصفورين بحجر، مع التحفظ على المثل العنيف، لنطفئ الأشواق للصغيرة ونشعل نار الذكريات بيننا. طوال اليوم، بدءاً من صعود الطائرة، ونحن نتعارك معاركنا، لربما القول الأدق هو أنني أنا أتعارك فيما هو يطلق ضحكاته مصحوبة بتعليقاته الكوميدية التي تزيدني غيظاً على غيظ، التي لن نعرف نفسينا وعلاقتنا دونها. خلال اليوم، غرت أنا بضع مرات وغضبت ورضيت في غضون دقائق، احتججت بغضب على عدم الدخول لمتحف رغم أن موعد الدخول إليه كان قد انتهى، تأسيت لأنه لم يذكر مناسبتنا بصورة أنستغرامية، رغم أنني لم أفعل كذلك، طالبت بهدية لا أريدها حقيقة، وحنقت واحتددت في نقاش حول الفن الحديث ونحن نمر بجانب متحف Tate الذي سيكون لنا موعد فيه يوم غد سيحضره هو معي مجبراً لا بطل. بين الغضبة والأخرى تنطلق ضحكاته صافية وتعليقاته ذكية حادة لماحة، فأمثل أنا غضباً على غضب، ثم أنسى سريعاً حين يأخذنا الحوار إلى مكان آخر أو المنظر إلى دنيا أخرى أو “فترينة” محل إلى مشتهى في القلب.
حين جلسنا آخر اليوم إلى طاولة صغيرة في مطعم دافئ منزو، سألته بصوت جاد: هل هناك أي ندم؟ فأجاب دون تردد: ولا للحظة. عادة كنت سأختلق غضبة على هذا الرد، موضوعها أن مدة تحضير الرد مثيرة للشك، فسرعته تدل على جهوزيته وبالتالي عدم صدقه، إلا أن النبرة ولمعة العين تطلبت جدية هي نادرة الحدوث بيننا حتى في أكثر لحظات حياتنا وداً ورومانسية. عدت له بسؤال، لو كنت تستطيع، ماذا ستغير بي ومني؟ طبعاً لم يكن طبْعانا ليحتملا جدية أكثر، لذا سرعان ما انقلب الموقف إلى كوميديا ضاحكة، تبادلنا خلالها الاتهامات متذكرين ما حسبناه أخطاء أحدنا على الآخر. وفي لحظة مرت سريعة بين ضحكاتنا، قال: من الخطير أن أتمنى تغيير أي شيء، حتى ما لا يروق لي من طباعك، فتغيير شيء ما سيحتم سلسلة تغييرات أخرى في الشخصية قد ينتج عنها إنسانة مختلفة، وهذا ما لا يمكن تخيله أو التعايش معه. كنت أسر لنفسي تحديداً ما كان هو يُعلن من الخوف من التغيير الذي قد يغير “المنتج” النهائي، التقت مخاوفنا كما التقت ضحكاتنا التي طالما استخدمناها لنغطي بها على تعبيرات المحبة التي دوماً ما بدت لنا سمجة وغير مناسبة للموقف ولا قادرة على التعبير الحقيقي عن مكنون القلب.
إبان عودتنا مشياً على القدمين إلى فندقنا الصغير، حيث بقينا نمشي في المدينة الخلابة لما يزيد على الخمس ساعات، تضاحك هو على كمية الكاكاو الداكن التي آكلها أنا بشكل يومي، فيما لوى شفتيه مع استمرار حديثي عن المعرض الخاص الذي سنحضره يوم غد للفنانة اليابانية العظيمة يايوي كوساما، وعن قصة حياتها التراجيدية وكل أعمالها الغريبة الخلابة. وعلى الرغم من سخريته وليّ شفتيه، كنت متأكدة أنه ينصت صابراً وأنه سيرافقني غداً، رغم ملله الذي سيكون مَحَبة وأنه يعايرني بكمية الكاكاو ألفة، كأنه يقول من خلال كل ذلك إنه لا أحد يعرفني كما يعرفني هو، وإنه لذلك أو على الرغم من ذلك، يحبني بعمق وبساطة وجدية وكوميدية حباً سيحميني طوال العمر.
قبل أيام كتبت على تويتر تغريدة تحكي موقفاً عن واحدة من دعاباتنا المتبادلة، ليحولها معشر المغردين إلى قضية زوجية نسوية بل وسياسية اقتصادية، وليركن في قلبي مقدار حظي في علاقتي هذه بزوجي، ببساطتها ولطفها وكوميدية أدواتها تعاملاً مع الأغلب الأعم من المواقف. في اللحظات الحالكة، وكلنا كبشر لنا فيها نصيب، هو موجود بثبات انفعالاته واتزانه وتصغيره المستمر للمشاكل مهما عظمت، وتعامله البسيط والإيجابي معها مهما بلغت سلبيتها. وفي اللحظات المشرقة، وكلنا كبشر نتمنى منها نصيباً، هو موجود بكوميديته وبساطته وثقته الجذابة جداً بنفسه وتعابير محبته التي هي نادراً ما كانت تقليدية أو ساذجة أو مباشرة. كثيرون ممن علقوا على التغريدة فاتهم معنى الدعابة ومغزاها ودلالاتها، حيث ضاعت بين جدية مفتعلة للعلاقات أصر عليها بعض المغردين، وكوميدية وبساطة نصرّ عليهما أنا وزوجي إطاراً للعلاقة. كان محزناً أن فات البعض معنى اللحظة الإنسانية التي أحببت أن أشاركهم فيها، التي من خلالها أحكي حكاية فهم عميق وراحة مستتبة وثقة متبادلة وشعور معمق بالأمان ومحبة متجذرة مبنية على كل ما سبق، لتتحول اللحظة الإنسانية البسيطة إلى قضية معقدة. ترى أبسبب مثل هذا التعقيد تتدهور العلاقات وتضمر المحبات في القلوب؟
ليس في الدنيا عدل، وليس للكل نصيب من الوفاق كالذي قدره قدري لي. إلا أن المعادلة لم تقف حد القدر، بل احتاجت إلى سنوات من العمل والتحمل والتضحية والإصرار على الاستمرار والنجاح لتعتدل وتتوازن كفتاها. بعد ثلاث وثلاثين سنة من الزواج يمكنني القول إنه لو كان الأساس متيناً وعوامل المعادلة صالحة، فستأتي بعدها البساطة والثقة والصبر وكوميديا الموقف التي يتشارك الطرفان في صنعها لتصنع كلها معادلة ناجحة.
كل عام وأنت حب قلبي وراحة بالي وأرضي التي أقف عليها، وتاريخي الذي يصنعني، ومستقبلي المقدر لي، ورضى الرب والأقدار علي. أكاد أراك ساخراً ضاحكاً بعد قراءتك لهذا المقال، وأكاد أتخيل النظرة اللحظية التي سنتبادلها، وأكاد أتخيل سعادتي القادمة بهذه اللحظة وتلك الضحكات. وتعيش وتضحك يا مهجة الفؤاد.