كنت أستمع لمقابلة مع المخرجة إيناس الدغيدي، وهي مخرجة مصرية تثير الكثير من الزوابع ليس فقط من خلال أعمالها السينمائية، لكن كذلك من خلال آرائها الخارجة تماماً خارج الصندوق المحافظ لمنطقتنا الشرق أوسطية، والتي تعبر هي عنها، في أحايين كثيرة، بأريحية كبيرة، وإن لم يكن بالرصانة الفكرية والأيديولوجية المطلوبة. سألها محاورها، في تلك المقابلة، عن رأيها في إصلاح الخطاب الديني، فقالت إنها لا تعتقد أنه من الممكن فعلياً تحقيق عملية الإصلاح هذه، وأن المطلوب حقيقة هو فصل الدولة كمنظومة سياسية عن الحيز الديني، فتعمل الدولة سياسياً ويتعبد الناس كما يحبون ويرون دينياً دون خلط الحيزين.
وعلى حين أن هذه الفكرة عملية جداً من حيث تسريع خطوة التقدم بالمجتمع وتدعيم درجة كبيرة من الأمن والاستقرار فيه، إلا أن واقع الحال يقول أن الفصل الحقيقي بين السياسة والدين لن يستتب له الأمر سوى بتحقيق شيء من التعديل في الخطاب الديني يساند ويساعد في تحقيق هذا الفصل العصي على النفوس في المجتمعات المحافظة، كما أن الاستقرار الاجتماعي والأمني الحقيقي في حيوات الناس لن يتحقق إلا حين يحدث تغيير جذري في الخطاب الديني يحوّل، على أقل تقدير، الخلاف حول المفاهيم الدينية إلى خلاف فكري لا يتطلب أي صورة من صور الصد العنيف ولا يستدعي مفهوم «الجهاد» من أجل الحق، والذي يعتقده كل طرف رابضاً في زاويته. لربما يمكن خلق فاصل بين الإصلاحين: إصلاح علماني يحمي الدولة وقوانينها من الصراعات الأيديولوجية من جهة، وإصلاح ديني مفاهيمي يطور المجتمع ويرفع نسبة الحريات فيه ويرسخ المفاهيم الحقوقية في تصرفات أفراده من جهة أخرى. لكن، هل يمكن فعلياً عزل الإصلاحين تماماً بعضهما عن بعض، وتوقيتهما بتواقيت مختلفة تماماً؟
أتصور أن الكثير من الشد السياسي والاجتماعي في تركيا على سبيل المثال هو نتاج محاولة عزل الإصلاحَين عن بعضهما، فقد أخذ أتاتورك تركيا إلى الحيز العلماني عنوة دون أن يترك فرصة للإصلاح الأيديولوجي بأن يصاحبه، مما خلق فجوة مجتمعية عميقة فصلت بين الأتراك في حد ذاتهم وقسمتهم على أنفسهم. الإصلاح السياسي، الذي يتطلب استتباب الأمر للديمقراطية وللنظم الإدارية الرصينة التي تتشكل من خلال المؤسسة البرلمانية والمؤسسات المدنية في الدولة التي يجب أن تكون على أعلى درجات الحياد تجاه كل مواطنيها باختلاف توجهاتهم، لا أتصوره إصلاحاً قابلاً للتحقيق المستقر، أي قابلاً أن يتجذر في ضمير الأمة، لا أن يطفو شكلاً مخادعاً على وجهها، سوى بمصاحبة قناعات دينية جديدة ناتجة عن قراءات وتفسيرات حديثة تأخذ الأمة وأيديولوجيتها الدينية إلى الزمن المعاصر.
فعلى سبيل المثال، أصعب إصلاح قانوني- سياسي، والذي يتطلب الفصل التام عن الأيديولوجية الدينية، هو الإصلاح الملح في حيز قوانين الأحوال الشخصية. لكن حتى يستطيع المشرع أن يطرح قوانين عادلة جذرية التغيير، فإنه يحتاج مساعدة من أصحاب الخطاب الديني الذين يتوجب عليهم تمهيد الأرض وتحضير الفرشة اللازمة للتغيير الآتي، وذلك حتى يتجاوب الناس مع التشريعات الجديدة، وإلا ما فائدة تشريعات لا يؤمن الأشخاص بها، وكل رد فعلهم تجاهها مقاومتها؟ لا بد للخطاب الديني أن يتغير جذرياً وسريعاً، لا بد له أن يأخذ بعين الاعتبار المنظومة الحقوقية الحديثة والمستجدات الحياتية الملحة والأوضاع الاقتصادية التي فرضت نفسها على كل الأيديولوجيات بتنوعها.
لم يعد التمييز بين الرجل والمرأة مبرراً مثلاً تحت أي ظرف أو من أي منطلق، وأي محاولة تجميل وتلطيف هذا التمييز تبدو محاولة مهزوزة ساذجة لا تتناسب وعمق الخطاب الديني المفترض. تحتاج المنظومة الفكرية الدينية إلى نفضة قوية تأتي بالفكر الإسلامي للقرن الحادي والعشرين لتصبح هذه المنظومة عوناً وسنداً للتغييرات السياسية التي لا مناص منها. لا يجب أن يبقى الخطاب الديني في صراع مع الزمن والفكر الحديث وخطاب المنظومات الحقوقية والخطابات السياسية المعاصرة، هذه حرب محرجة لا يمكن للفكر الديني أن يربحها، ولن يكون نتاجها سوى تمزق أيديولوجي ونفسي في ضمير الأمة، ومن ثم في تصرفاتها. ولا أدل على ذلك من تصرفات أمتنا، التي في دولها تبدو على شكل وتتصرف بشكل، وفي دول «الغرب الكافر» تبدو على شكل آخر وتتصرف بأسلوب مختلف تماماً.
لا يمكن تأجيل العلمانية السياسية، هذا أمر واقع لا تستطيع الدول أن تتصرف دونه في المنظومة العالمية، أردنا أم لم نرد. كلمة علمانية لم تعد تتردد كثيراً أصلاً، ولا معنى حقيقياً لها في السياسة الغربية بعد أن تشربتها تماماً، لتصبح هذه الأيديولوجية قاعدة رئيسية في عملها. المطلوب هو أن يلحق الخطاب الديني بالفكر العلماني، وأن يسانده ويكون عوناً له في تحقيق فكرة الانفصال عن السياسة، بحيث يبقى للسياسة حيزها الصغير في أعلى هرم الدولة ويستتب الأمر للدين في حيزه المتسع كقاعدة يقوم عليها المجتمع فكرياً، يتعامل بها اجتماعياً، ويتصرف أفراده طبقاً لشروطها باختيارهم لا فرضاً قانونياً عليهم. يمكن للعلمانية السياسية أن تتحقق بلا تغيير للخطاب الديني، لكن أي وجه شرس سنراه لها إن لم يصاحبها التمهيد الفكري والتغيير الضمائري الحقيقي في نفوس المعنيين بها؟ حتى يتحقق «التسريح بإحسان» لا بد من شيء من التفاهم العقلاني أولاً.