وفد رياضي إسرائيلي في قطر وآخر في أبو ظبي، استقبالات لرؤساء الوزراء الإسرائيليين المجرمين على أراض عربية، آخرها زيارة نتنياهو لعُمان، سفارات تفتح، ومعاهدات توقع، ليغني الجميع «تراتيل السلام» كما وصفها حامل راية التطبيع محمد أنور السادات. في آخر هذه الأحداث المفطرة للقلب، وردا على التساؤلات العربية الخافتة والاعتراضات التي أتت على استحياء لزيارة نتنياهو لسلطنة عمان، قال وزير الشؤون الخارجية العماني، يوسف بن علوي، إن فعل الزيارة ليس محظورا على أحد، وإن «دولة إسرائيل دولة من دول الشرق الأوسط»، وإن رئيس وزرائها ارتأى زيارة السلطنة ليعرض على السلطان قابوس ما «يصلح الشأن في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص الخلاف الإسرائيلي الفلسطيني، وتم الترحيب بذلك». كم مرة فزّ قلبك وأنت تقرأ هذه الفقرة؟
إسرائيل دولة من دول الشرق الأوسط يا سعادة الوزير؟ إسرائيل التي أتت بوعد بلفور والتي تكونت بهجرات صهيويهودية جماعية من الشرق والغرب، إسرائيل التي تبني المستعمرات وتقتل الرجال والنساء والأطفال وتملأ سجونها بالفلسطينيين، إسرائيل التي لها عين على سيناء وأخرى على جنوب لبنان وأخرى على الجولان وأخرى على بقية البقاع القريبة والبعيدة للبلدان العربية المجاورة لفلسطين، هذه الإسرائيل ذات الأذرع الأخطبوطية التي بها تعدت وتطاولت واقتحمت واغتصبت وقتلت، هي ذات الإسرائيل التي زاركم رئيس وزرائها ليصلح الشأن في الشرق الأوسط؟ هي اليوم دولة «محترمة»، نستقبل رؤساء وزرائها ونرفع لها الأعلام ونغني لها الأناشيد ونحسن لها الجوار ونحترم لها الحدود؟ ما أقصر مدى الذاكرة العربية! قصرا اختياريا لا جبر فيه ولا مرض مسبب له، قصرا مع سبق الإصرار والترصد، قصرا أقل ما يقال فيه إنه محرج حد الموت، موت الذكريات، موت الثارات، موت الضمائر.
سنخبر محمد الدرة، أن إسرائيل أصبحت جارة سلام، وأن فرقها الرياضية تزورنا، وسفاراتها تفتح على أراضينا، ورؤساء وزرائها يكرموننا برؤاهم حول الاستقرار والسلام.
«إسرائيل دولة من دول الشرق الأوسط»، يا لها من جملة تحمل في طياتها كل ما نتصف به، نحن العرب، من صفات لا يجدر تعديدها الآن، ولا يليق ذكرها على صفحات الجرائد، إلا واحدة تأتي واضحة تخرق عين الشمس.. صفة التسليم والتخاذل. كنا فيما مضى نضحك من دول العرب على تنديدها وشجبها الخاليين الخاويين، وجاء زمان أصبحنا نتحسر فيه على التنديد والشجب ونشتاقهما، جاء زمان أصبح فيه ذلك الكلام الخالي عزيزا، والتأييد الخاوي مشلولا. لقد أظهرت معظم الحكومات العربية صلعتها، وركبت موجة أن إذا لم تستطع أن تتغلب عليهم فلتنضم إليهم، وهكذا تحول الكيان الصهيوني الدخيل إلى دولة، والمحتل إلى ضيف عزيز يزور ليشارك في مناسبة أو ليناقش، بطيب خاطر، شؤون الشرق الأوسط وكيفية استتباب الأمن فيه! إن وضعنا الحالي كبشر في العالم كله، من أول وجود ترامب في البيت الأبيض وصولا إلى إسرائيل التي تحولت إلى جارة كريمة محترمة، هو أشد وأقوى دليل على حقيقية نظرية التطور الداروينية وعلى تأخرنا الشديد في تخطي مراحلها.
لا بأس، سنخبر محمد الدرة، الذي في الثلاثين من شهر سبتمبر الماضي أكمل الثماني عشرة سنة في قبره الصغير، سنخبره أن إسرائيل أصبحت جارة سلام، وأن فرقها الرياضية تزورنا، وسفاراتها تفتح على أراضينا، ورؤساء وزرائها يكرموننا برؤاهم حول الاستقرار والسلام. سنهدّئ من روع قلبه الصغير الذي تحول ترابا الآن، هذا القلب الذي لا بد أنه دق عاليا متسارعا في لحظاته الأخيرة، والرصاص يخترق جسده الصغير ليسقط مستلقيا على ساقي والده الذي كان يصرخ «مات الولد»، وسنطمئنه أن إسرائيل اليوم «دولة من دول الشرق الأوسط» مهمومة بهموم الشرق وبسلامه، سنخبره أن دماءه ما راحت هدرا، وأن حياته ما اقتطعت عبثا، لقد تحولت إسرائيل إلى دار سلام، وتصافحت الأيادي ورفرفت الأعلام، وعزفت الأناشيد الوطنية، لقد رفعت الأقلام وجفت الصحف. لقد عزفت تراتيل السلام يا محمد وكأنها نغمات جنازة، رحمة من القدر أنك لا تشهد ما نشهد، عليك ألف رحمة ونور.
آخر شيء:
حقي أن أفتخر بالكويت وموقفها، كانت وستبقى أرضا صلبة للقضية، وصوتا عاليا للنضال من أجلها.