لا أتذكر أنني كنت ذات يوم ضمن حراك كبير وقوي وجمعي عالمياً مثل حراك المقاطعة الحالي، لا أتذكر أنني اتخذت موقفاً معبراً وأخلاقياً وفاعلاً مثل موقف هذه المقاطعة، موقف ربطنا جميعاً كبشر، رغم تباعداتنا الاجتماعية والثقافية والجغرافية، برابط الأخلاق والإنسانية والمواقف المبدئية. لا بد أن تستمر المقاطعة، لا بد أن نمشي هذا الطريق إلى آخره محولين هذه المقاطعة إلى استغناء تام، إلى تحول جذري في طريقة عيشنا لحيواتنا وفي فلسفة إنفاقنا لأموالنا وفي فهمنا للترابطات الاقتصادية الإمبراطورية التي نمولها نحن بحُرِّ أموالنا لتشن علينا الحروب لاحقاً وتضطهد الضعفاء منا وتستغل خيراتهم وأراضيهم وتقتِّل صغارهم قبل كبارهم بدم بارد.
لا بد أن نستمر في المقاطعة، ولا بد أن نحولها إلى أسلوب حياة ولو تجاه الشركات الكبرى واضحة المسار الصهيوني، التي من خلال مقاطعتها ومحاربتها وهزيمتها سنرسل رسالة واضحة للعالم أجمع. والمقاطعة، بالنسبة لي ولكثير من المقاطعين على ما يتبدى، هي اليوم حراك تثقيفي جداً. لقد فهمنا، ولو إلى حد بسيط، التشابكات الاقتصادية المعقدة في العالم، ووعينا أن كل الشركات الصغيرة المنفصلة لها في معظم الأحيان شركات أم فاحشة السلوك، شركات تضطهد عمالتها وتستغل أراضي وخيرات دول نائية لا تمتلك أمام الفقر والحاجة من أمرها شيئاً؛ «لتغسل» هذه الشركات العظمى أموالها الهائلة في شركات ومتاجر ومؤسسات متنكرة صغرى التي تعود «لتوسخ» تلك الأموال بترابطات اقتصادية وتبرعات وتعاقدات مع حكومات العالم الشريرة وجيوشها، ما يضمن استمرار الحروب، ثم استمرار دورة الأموال الضخمة من الحكومات الاضطهادية غسيلاً في الشركات المخملية، ثم وصولاً إلى الجيوش وعمليات التسليح. دورة حقيرة لطالما كنا نعرف بوجودها، ولكن لم يسبق لنا قط أن تواجهنا بها بهذا التبجح وهذه المباشرة.
الأهم أننا تعرفنا في هذه الفترة على منتجات محلية كان الأجدر بنا تشجيعها منذ البداية عوضاً عن التسوق العشوائي الساذج الذي كنا «نؤديه» تحت تأثير الإعلانات التخديرية، دون وضع جهد ولو قليل، في التعرف على المنتج ومصنعه ومصدره. تبدت معلومات التصنيع المهمة هذه تحديداً فيما يخص المنتجات الغذائية والاستهلاكية، حين بدأنا بفهم تسلسلات الشركات المنتجة وترابطاتها المريبة وفي الوقت ذاته، بدأنا بالتعرف على كثير من منتجاتنا المحلية التي أصبحت اليوم، بسهولة ويسر، تحل محل المنتجات الأجنبية في مطابخنا وبيوتنا دون كثير من الفرق العملي التأثيري في حيواتنا، ومع كثير من الشعور بأخلاقية الموقف وراحة الضمير من حيث تشجيع منتجاتنا، ومن ثم تقوية اقتصاداتنا المحلية ومن حيث التباعد والمنتجات المشبوهة التي تأخذ أموالنا إلى حيث لا ندري ولا نعلم.
حراك «الاستغناء» بالنسبة لي شخصياً اليوم، يذهب لما هو أبعد حتى من القضية الفلسطينية، رغم أنه لا يوجد ما هو أهم منها حالياً على الساحة العالمية الدولية والإنسانية، فهو حراك يقول كلمته لاقتصادات العالم الفاحشة التي طالما مولت حروباً ضد الأبرياء من قديم الزمان، تماماً كما اكتشفنا تمويلاتها ضد الفلسطينيين، التي طالما عصرت الفقراء عملاً مجحفاً ومردوداً ضئيلاً مهيناً، والتي طالما اضطهدت الطفولة وحرمتها من معناها وهي تغتصبها في المصانع ومراكز العمل تحت ظروف غاية في القسوة والخطورة، والتي طالما هيجت الشعوب ضد الشعوب وسلحت الجيوش ضد الجيوش وتآمرت على سرقة الأراضي والموارد الطبيعية والأيادي العاملة المحلية، وأراقت دماء بشكل مستمر ومتوال وخفي، دماء لربما تفوق في كميتها تلك التي سالت في كل الحروب الإنسانية مجتمعة. هو حراك يقول لهذه المؤسسات المتوحشة الفاحشة إننا لم نعد مخدرين تحت تعويذاتكم، ولم نعد مفتونين بظاهركم المصقول اللامع، هو حراك يؤكد لأنفسنا قبل غيرنا أننا فهمنا الخطة المتوحشة الغائرة في القدم والآخذة في الاستمرار كأنها قطار منفلت لا يوقفه أي حجر أو بشر يقعون على قضبانه، هو حراك يعلنها ثورة، ليس فقط على الصهاينة بتمويلاتهم وتداخلاتهم الاقتصادية، ولا على الشركات المتحالفة مع هذا الاستعمار البذيء تمويلاً ومساندة أو حتى مجرد مبادلة اقتصادية، حراكنا اليوم هو ثورة على كل الحكومات العالمية المتورطة التي لا تقوم لها قائمة سوى بأموالنا التي نمول بها من أصغر منتجاتهم إلى أكبرها دون أن نفقه أننا إنما نسمِّن الوحش الذي سيأكلنا ذات يوم.
حراكنا اليوم هو حراك اعتذار لكل الشعوب المقهورة، لكل الفقراء والضعفاء، لكل الجوعى والمحرومين التي أتت هذه المؤسسات والحكومات، التي ظاهرها مؤسسات مدنية ومتاجر لامعة وباطنها ميليشيات وجيوش متوحشة فاحشة، على أراضيهم ومواردهم الطبيعية استغلالاً ونهباً حتى أنهكتهم وشلت أطرافهم وتركتهم معوزين محتاجين رغم كل ما لأرضهم من خيرات. حراكنا هو اعتذار بأثر رجعي ولربما بأثر مستقبلي كذلك عما فعلنا وقد نفعل. لقد اتضحت الصورة اليوم كما لم تتضح من قبل، صورة لن يقضي على بشاعتها التي لم يعد من الممكن تفادي النظر إليها ومواجهتها سوى الاستغناء. حرام علينا منتجاتكم الغارقة في الدماء والمصنعة من الأطراف والأشلاء من قديم الزمن وصولاً إلى السابع من أكتوبر وإلى اليوم. حرام على كل الإنسانية رفاهية مبنية على الفحش والقتل والدماء، والإنسانية اليوم وأخيراً تستوعب وتستجيب.