في مقاله المعنون “النار والمعبد”، والذي لا يمكن الاطلاع عليه إلكترونيا من الكويت، بحسب علمي، ولا من دول عربية عدة أخرى حيث هو منشور على موقع الحوار المتمدن المحجوب منذ زمن، يقول سعيد ناشيد “في هذا الكون المظلم، الذي ينتظره موت حراري إذا استمر في التمدد، وانسحاق كبير إذا عاود الانكماش بمفعول الجاذبية الكونية، نجد أنفسنا أمام سؤال أنطلوجي مرعب: هل يمكن للنوع البشري، الذي يتموضع بين أنياب وحش قيامي، أن يغادر (هكذا وبكل بساطة) معابد الدين من غير أن يقع في صحراء العدمية؟ هل يمكن للإنسان أن يتفادى الحافتين: الانتحار الديني والانتحار العدمي، ذات اليمين وذات الشمال، وأن يعبر المنعطف الحاد بسلام؟” (قلق في العقيدة، سعيد ناشيد، دار الطليعة ـ بيروت، ص106).
يبدو ناشيد على شيء من التفاؤل في محاولته اللاحقة للإجابة على هذا السؤال، تفاؤل لا أتشارك به كثيرا معه، حيث تبدو معظم المحاولات البشرية لإيجاد بصيص نور بين “الانتحارين” هي مجرد محاولات ساذجة لإراحة النفس البشرية المنكوبة بوعيها بعدميتها.
بالنسبة لناشيد، “المبدأ الإلهي يعني تصورا أنطولوجيا يمنح “معقولية” معينة لفوضى الوجود واعتباطية الحياة وجنون الكون الجامح. وإلا فأي دور يبقى للذكاء البشري؟ أي دور للغة والرياضيات والموسيقى والألوان؟” (المصدر نفسه، ص106).
يربط ناشيد هنا، على حد فهمي، بين المهارات العقلية الإبداعية الإنسانية وبين تصورنا الإلهي، حيث أن كلاهما ـ مهاراتنا العقلية وتصوراتنا الإلهية ـ يعطي معنى لفوضى الحياة العدمية. فالموسيقى والألوان تعطي انطباعا (ولو كاذبا) بالخلود والرياضيات تحاول (أحيانا) أن تشرح (ولو كذبا) كيفية هذا الخلود واللغة تسعى لأن تفلسف (ولو نظريا) أشكال وجود وخلود لا معنى حقيقي وواضح لهما.
يرى ناشيد أن الذكاء البشري هو المخول بدور المخلص من الانتحاريْن، الديني والعدمي، إلا أنه يؤكد أن قليلين يحملون ذلك التفاؤل القديم “حين كنا نعتقد بأن ملايين السنين التي تفصلنا عن الموت الحراري للكون، أو عن انطفاء الشمس أو توقف الأرض عن الدوران، قد تكفي الذكاء البشري ليجد الإنسان لنفسه مخرجا. ذلك التفاؤل الذي تبدو الماركسية وكأنها كانت آخر علاماته” (المصدر نفسه، ص106).
بالنسبة لناشيد “منبع الكثير من أمراضنا الوجدانية والتواصلية والأخلاقية ما هو إلا انعكاس لهذه العدمية الجاثمة على روح العصر، والتي تحرمنا من ذلك الشيء الذي لا أعرف كيف أسميه، لكن الكثيرين يحتفظون بتسميته القديمة حين ينعتونه بالأمن الروحي” (المصدر نفسه، ص107).
بلا شك، يشكل الأمن الروحي، أو لربما أسميه الإشباع الروحي، حاجة بشرية مهمة. فالإنسان مشكل بيولوجيا لينظر فوق رأسه باحثا عن كينونة أعظم منه يستطيع أن يشبع روحه تعبدا لها كما ويتمكن من إعطاء بعض المعنى لهذا الوجود العدمي البارد من خلال الإيمان بسيطرتها على هذا الوجود. ولكن هل تحرمنا العدمية فعلا كل صور الأمن الروحي؟ هل من صور أمن روحي متطورة ومسنودة علميا يمكن لها أن تؤدي هذا الدور الإشباعي؟
لربما أختلف مع ناشيد كثيرا في تحليله لمصدر أمراضنا التواصلية والوجدانية والأخلاقية. فعدميتنا ليست هي، في رأيي، السبب الحقيقي لهذه الأمراض، بل إنني أستطيع أن أجزم أن من شأن هذه العدمية القضاء على هذه الأمراض بمصل “اللامعنى” الذي تسبغه على الحياة بما فيها شرورها وويلاتها.
حين يتولد لديك يقين إذن أن هذه الحياة إلى عدم، أنك ستعود غبار نجوم كما بدأت، لربما تصبح اللحظة الآنية هي الأغلى ثمنا، واستثمارها الحقيقي القيم هو كل ما يتبقى، لربما تصبح قيمة الوقت من قيمة الإنسان الذي يملأه، من قيمة الموقف الذي يقع في اللحظة ومن مدى أخلاقية تعاملك معه. لربما إذا فهمنا فعليا فكرة زوالنا، سنقدر حقيقة فكرة وجودنا وقيمة أن نحيا هذا الوجود بأخلاقية ووجدانية.
يؤكد ناشيد أنه “في هذه الأجواء، التي ينزع فيها الوعي المعاصر نحو الانتحار القيامي، لا تستطيع الأديان، وهي المثقلة بأحمال الروى الألفية والقيامية والمهدوية، أن تمثل ترياقا ضد العدمية مثلما يزعم الحبر الأعظم في “دولة” الفاتيكان.
كما أن “الإلحاد” السطحي، الذي يضع الإنسان في وسط جحيم من الفوضى والعماء والانطفاء الكوني، لا يمكنه أن يكون ترياقا ضد الظلامية مثلما يزعم الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفراي” (المصدر نفسه، ص107).
أرى هنا وجهة نظر ناشيد من حيث فشل النزعتين في صنع ترياق ضد العدمية، إلا أن حله المتمثل في ضرورة استرجاع “الثقة في إمكانية خلود النوع البشري” (المصدر نفسه، ص107) وإلى “تصور هدف “افتراضي” كبير” (المصدر نفسه، ص108) يبدو لي أنه حل اصطناعي، يشكله الإنسان في وعيه ليستطيع أن يتعايش وفكرة زواله.
من منظوري، تبدو حلول ناشيد محاكاة لفكرة “خلق الراحة” حيث أن كل ما يمكنه أن يكون مريحا ويعيد الأمل فهو بالضرورة حقيقي أو على أقل تقدير مفيد، ولكن هل الأمر فعلا كذلك؟ هل كل ما يريحك حقيقي؟ هل كل ما يثبت الأمل لديك مفيد؟
يقترح ناشيد “تصورا جديدا للمبدأ الإلهي، بل وربما إلى مجرد إحياء لمبدأ “ربوبي” مودع في وجدان كل إنسان” (المصدر نفسه، ص108)، وفي هذا المقترح لربما أعلى درجات الأخلاقية التي يمكن لها أن تقف مناصفة بين طريقي القيامة والعدم، وبين قناعاتي المتواضعة وقناعات ناشيد العميقة.
أن ترى الله في الجمال وفي الخير وفي فساحة وعظمة الكون وفي روعة قوانينه الفيزيائية، فإن في ذلك إنقاذا للنفس الإنسانية، إبان سنوات حياتها القصيرة على الأرض، من الشعور الحارق بدنو الفناء. إلا أن ذلك لا يعني الكذب على الذات وإيهامها بأبعد من قدراتها بالغة المحدودية والوجود.
لا يمكن أن يكون لحياة الإنسان قيمة إذا ما اختلق هو لها قصة تساعده على التعايش وعدميته، ولم اختلاق قصة ويمكن للعدمية أن تكون بحد ذاتها قصة غاية في الإثارة والعمق؟
يختتم ناشيد مقاله قائلا “حراس الدين كثيرا ما أساؤوا لله وللوطن وللجميع. وقد ساهمنا نحن أيضا في أن يكونوا ناطقين شرعيين وحيدين بـ “اسم الله” (المصدر نفسه، ص109) مطالبا إيانا بين السطور أن نستعيد ملكيتنا لفهم الله، لخلق حالة معنوية أخلاقية مع الله موضع نباتها هو الوجدان وموضع تنفيذها هو الحياة بأيامها.
لو أننا استعدنا مفهوم الرب، يقول ناشيد، من أيدي الوصوليين سيخف مرار عدمية الحياة، عندها لربما سنتمكن من صنع هذا “الهدف الافتراضي الكبير” الذي سبق أن ذكره. أن نمتلك كبشر، كل فرد منا، مفهومنا لله، وأن نراه متجليا في السماء والأرض والماء واللون والرقم الرياضي والنوتة الموسيقية، أن نعيش الخالق كحالة وجدانية لا أن نتعايش معه كقوة عقابية قيامية (من يوم القيامة)، لربما يكون هذا هو الحل للخروج من “منتصف ليل العدمية” (المصدر نفسه، ص107) الذي يقول ناشيد بوصولنا البشري إليه.
إن استطعنا تحقيق هذه المعادلة الخارقة، لربما نستطيع عندها، ودون اختلاق قصص وهمية حول خلود البشرية في زمن أثقلنا العلم خلاله بإثباتات عدميتنا، أن نحيا بقلوب أسعد وقلق أقل وأحمال أخف وزنا.