بوكس

لم تكن الدكتورة فاطمة المطر حكيمة في نشر تغريدة مساواة جندرية في مجتمع تعلم مدى حساسيته ومحافظته وتدينه، وهي، كأستاذة قانون، المفترض أن تكون أعلم بأنها ستوقعها تحت طائلة القانون وتحت منشار انتقام من يتربص بها.

لربما من الصعب إيصال المعنى الحقيقي للحرية، لقيمتها، ولثمنها الغالي المستحق في مجتمعات تعيش على الحقائق المطلقة والنظرة الأحادية لكل قيم الحياة. كيف تطلب من إنسان أن يفسح للآخر فرصته في الاعتقاد على سبيل المثال وأنت مؤمن تماماً أنك تمتلك الحقيقة المطلقة، لك كل الحق في نشرها، وعليك كل الواجب في فرضها على الآخرين؟ الحرية الحقيقية تتبدى في المجتمعات التي ترفع الشعار الشافعي الإسلامي في الواقع والذي يقول “أنا على صواب يحتمل الخطأ”. إلا أنه، ويا لسخرية القدر، يبدو أن المسلمين، بعلمائهم وبسطائهم، غير قادرين أبداً على استيعاب مساحة الخطأ هذه مطلقاً، وهنا تكمن المعضلة، هنا تقتل الحرية، عند “أنا على صواب لا يحتمل الخطأ مطلقاً”.

الدكتورة فاطمة المطر كتبت تغريدة هي ليست جديدة في الواقع، فهناك نسخ عدة مما يفترض أن يكون نص المزحة التي قدمتها فاطمة في تغريدتها للتدليل على استحالة حدوث أمر ما، حيث كان فحوى مزحتها استحالة حدوث مساواة جندرية في عالمنا العربي. وللدفع بكل الردود جانباً للوصول لفرصة مناقشة مفهوم الحرية بوضوح، لابد من تعديد هذه الردود وتضييع الوقت والمساحة في تكرارها. أتفق تماماً: لم تكن فاطمة حكيمة في نشر هذه التغريدة في مجتمع تعلم مدى حساسيته ومحافظته وتدينه. لم تكن فاطمة حكيمة في نشر هذه التغريدة وهي، كأستاذة قانون، المفترض أن تكون أعلم بأنها ستوقعها تحت طائلة القانون وتحت منشار انتقام من يتربص بها. لم تكن فاطمة تحتاج لردة فعل اللجوء القوية هذه، التغريدة بسيطة وكان يمكنها، في الغالب، الخروج من القضية لو أنها أوضحت الهدف منها والكيفية التي يتم بها استعمال صياغة هذه التغريدة ليس من الآلاف، بل ملايين المغردين للتعبير عن فكرة استحالة حدوث شيء ما. النضال (لو أنها اعتبرت ما تأتيه كذلك) يتطلب ثمنا، ولربما كان على فاطمة التي أرادت التغيير أن تبقى على أرضها وتدفع بعض ثمن هذا التغيير الذي تود هي تحقيقه بطريقة صدامية مع المجتمع. كان يمكن لفاطمة أن توصل الفكرة بطريقة مختلفة، كان يمكن لفاطمة أن تناضل بطريقة مختلفة، كان يمكن أن يحدث ألف ألف شيء مختلف من فاطمة، إلا أن ذلك لم يحدث، وها نحن اليوم هنا.

اختبار الحريات الحقيقي تظهر نتائجه في هذه المساحة، فالحرية لا تختبرها المواقف البسيطة التي يتفق كل الناس عليها، الحرية تختبرها المواقف العصية التي يختلف الأغلبية الغالبة عليها، فإن استطاعت الدولة حماية المختلف وإن احترم الآخرون حق المختلف في إبداء رأيه رغم كرههم الشديد لهذا الرأي واختلافهم معه وحتى عدم احترامه، فهنا يتجلى مفهوم حرية الرأي بصورته الحقيقية. إذاً رغم كل ما ذكرت أعلاه، رغم منطقية الحجج المختلفة والمخالفة لما قالت فاطمة، يبقى ما يعلو الحجج كلها، مفهوم الحرية الذي يقول بأن لفاطمة الحق في أن تبدي وجهة نظرها حتى لو كانت خاطئة، لو كانت ستودي بها للجحيم، لو كانت متضاربة ومعتقد الأغلبية، لو كانت سيئة التعبير والصياغة، لو كانت ساخرة، لو كانت ضعيفة، لو كانت رديئة، لو كانت قليلة التأدب، فكل هذه الصفات المكروهة، يجب ألا تحد من قدرة فاطمة على إبداء رأيها. فإن حدث ووقف القانون والناس بالسكين على لسان فاطمة، انتفى مبدأ الحرية مباشرة، وأصبحت القيمة السائدة أي شيء وكل شيء سوى الحرية، فهذه أول ما سيقع تحت نصل السكين، أول ما سيلفظ الأنفاس إذا ما تحرك النصل.

حرية الرأي لا تحتاج لتأدب وعلم وخبرة وحسن تعبد ليتم تطبيقها، في الواقع هي لا تظهر لها قيمة إلا حين يستوجب تطبيقها على (وليس هنا الوصف للدكتورة فاطمة مطلقاً إنما هو مجرد مثال متطرف) غير المؤدب، الجاهل، عديم الخبرة، قليل الأخلاق، هذا الذي تود أن تلكمه على وجهه ما إن يفتح فمه، إلا أنك تذكر نفسك أن مبدأ الحرية المقدس فوقك وفوقه، وأنك لابد أن تحتمل حتى هذا الإنسان بكل مساوئه من أجل هذا المبدأ المهيب، الحرية، بكل جمالها وحسناتها ونتاجها الرائع العظيم. أعلم أن الكلام سهل وأن التنفيذ ثقيل، لكن إذا لم نأخذ مفهوم الحرية بشكل جدي وحقيقي، فسنعيش حياتنا نقفز من محكمة لأخرى، شاكين ومشتكى ضدهم، فكل منا له رؤية، وكل منا له خطوط حمر، وكل منا له عدوه الذي يود أن يلكمه لكمة رنانة على وجهه، وهو تقريباً ما يحدث الآن، حيث الأغلبية الغالبة من القضايا التي تشغل محاكم اليوم هي قضايا الرأي وخصوصاً المرفوعة بسبب “تويتر”. اليوم فضاء الحرية مفتوح، لم يعد هناك مجال للتكميم والتحجيم، وما ساء الناس من فاطمة من هنا، سيأتيها منها عشرات أضعافه من هناك حيث لجأت وستعيش الآن، والسؤال يبقى، ماذا استفدنا؟ هل دافعنا عن الدين وحمينا المقام الإلهي بهذه الصورة أم أننا قدمنا صورة مهزوزة عن معتقداتنا للعالم وخسرنا عضوا من مجتمعنا كان يمكن أن يكون مكسباً؟

بالمنطق يا إخوان، أيها الغاضبون الحانقون من أجل الدين، إذا كان الدين مع الحرية كما تقولون، فهذه الحرية لا يمكن أن يكون لها حد، فهي تصل الى درجة قرآنية أن “فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر”، وإن كنتم ترومون حماية حقيقية للمعتقد، فالأولى إبراز قوته برد الفكرة بالفكرة لا بالتهديد والوعيد ورفع القضايا وحبس الناس وقطع الألسنة، فهذه ليست حماية، هذا استبداد مصدره الخوف والضعف. قضايا الحسبة لم يعد لها مكان اليوم، ليس لأحد الحق أن يدعي تفويضه من الخالق أو تمثيله له على الأرض. القوانين تحتاج أن تتغير، والأفكار تحتاج أن تتغير، والجميع يحتاج أن يضع السكاكين والفؤوس على الأرض وأن يهدؤوا بعض الشيء.