«برافو»

كنت قد كتبت مقالاً أعبر فيه عن حالة غير مألوفة من الرضا والهدوء النفسيين بعد حضوري لأوبريت “يوميات بحار” وهو المقال الذي كان من المفترض أن ينشر اليوم الاثنين، لكنها الفرحة التي لم تتم هي التي أجلت المقال، لنستيقظ من حلم النوستالجيا الجميل على خبر النيران المتصاعدة من جسد الشاب البدون الذي أضرم النيران في نفسه بعد أن ماتت روحه داخل هذا الجسد ولربما منذ زمن.

ولا أدري ما نوعية الإشاعات والترويجات التي ستلف وتدور حول أسباب محاولة هذا الشاب الانتحار، ما ستقوله الحكومة، لحين نشر هذا المقال، عن فشل هذا الشاب أو ربما فساده وتورطه في ما لا تحمد عقباه مما استلزم منه محاولة إنهاء حياته. إذا كان الرصيف في ديوان الدكتور الحربش هو الذي ضرب زوار الديوان في تلك السنة القميئة، ليس بعيداً أن عقب سيجارة لم يطفئها الفتى كما يجب هو الذي أضرم النار في جسده. سنسمع الكثير على ما أتصور عن سوابق الشاب، وسنقرأ الكثير عن حرمة فعلته، بل ها هو الحديث غير المعروف مدى صحته دائر حول تسجيل قضية ضده، وهذا هو المنتظر من الحكومة القوية، وإلا ستصبح الدنيا “سبهللة” وسيخرج علينا أصحاب المعاناة كل يوم يقتلون أنفسهم ويحرجوننا أمام العالم. لا بد أن يكون هذا الفتى عبرة لمن يعتبر، فمن يريد أن يقتل نفسه فعنده بيته، وإذا كان البيت كيربي لا يحتمل التعلق في سقفه فعنده البحر، أو القفز من سقف عمارة، أو حتى الانزلاق أمام سيارة، كل هذه الوسائل مستخدمة منذ سنوات، عشرات البدون توفوا منتحرين هكذا دون إثارة ضجة كبيرة، كان لازم هذا الشاب يولع في نفسه ويولع الدنيا حولنا معه؟

ومثلما تقول الكاتبة المسرحية إيف آنسلر، الإعلام دائماً يكون موجوداً وقت البهرجة، وقت الانفجارات اللامعة، ولكن ما إن تسكت القنابل وتبدأ الحرب الحقيقية حتى يختفي هذا الإعلام ومعه اهتمام الناس. هكذا هي الحال دائماً، الضوء اليوم مسلط على قضية البدون، الكل، تقريباً، كشف صدره وضربه ضربتين، حالفاً أيمان الأيمان إن القضية ستحل وإلا. ثم تمر الأيام، يخفت وهج النار، ينسى الناس أو يملون، يضرب أصحاب الصدور المكشوفة خُمُرهم على جيوبهم، وتسكن الدنيا. لكن الحرب الحقيقية في حياة البدون لا تسكن أبداً، بل هي تبدأ فعلياً حين نغادر نحن باهتمامنا المنمق وكلماتنا المطاطية ووجوهنا المتلبسة ألف قناع. غير مهم، المهم أن كلاً منا قال الكلمتين اللتين قدره الله عليهما، فدعا على الظالم، وطلب الصبر لأم الشاب، وذم في الحكومة وإجراءاتها، قبل أن يتجه للوافدين ليخبرهم كم هم حشريون ومدسوسون دساً بيننا.

لكن المثير ليس الحديث، المثير دوماً هو الصمت، فالصمت من ذهب فعلاً. نحن نزوبع ونجعجع، والجماعة صامتون، ينتظرون مرور العاصفة، ينحنون أمامها لتمر بأعاصيرها، ثم يرفعون القامة مرة أخرى ويكملون المسير. أتأمل هذا التكتيك العنصري، نيابيا وحكوميا، ممن تقول لهم دخيلة نفوسهم “دفعة مردي” عن الشاب المحروق، ممن يتمنون محارق جماعية تخلصهم من القضية وأصحابها، فأسرّ لنفسي أنْ يا له من تكتيك صعب، يا له من صمت جبار، قادرون أنتم على مسك ألسنتكم فلا تتبجحون ولا تترحمون، فقط تسكتون راجين ذاكرة الناس الضعيفة ونفسهم القصير تجاه القضايا الإنسانية، لتقفوا بعد الزوبعة، تنفضون أثوابكم وتصففون شعوركم ثم تتحدثون عن النسيج الاجتماعي وأصالة المنبت، والمعجز في الموضوع أن الناس ستلتف حولكم وتصفق لكم من جديد. إنتوا حاسبينها عدل، “برافو”.