زرت قبل أيام مستشفى مبارك لمرض ألمّ بي، وبينما أنا أنتظر ضمن طابور طويل من المرضى، ثم أتنقل بين غرف الأشعة والطبيب والتمريض، ألحت عليّ فكرة التشابه الكبير بين مستشفى مبارك والكويت، وكأن المستشفى عينة مصغرة من البلد. مستشفى مبارك مبنى كبير، فيه مبانٍ حديثة فاخرة، وفيه أجزاء قديمة متهالكة في تناقض صارخ بين مرافقه المختلفة، يمتلئ المستشفى بالممرات و”الزواريب” المتشابكة وكأنه متاهة كبيرة شائكة في حين أن مداخله، في معظمها، فسيحة مرتبة.
تبدأ المشكلة في زيارة المستشفى من مواقفه، تتكدس السيارات في المواقف المتناثرة بعشوائية، ولأن زوار المستشفى هم، جلهم، من المرضى، يعتقد المعظم أن لهم الحق في حشر سياراتهم في ممرات المواقف، فيعيقون حركة السير ويضاعفون من مشكلة زحام المواقف.
ما إن تدخل من بوابة الطوارئ حتى تصدمك حالة من العشوائية المريبة لخط سيرك العلاجي، يتراكم المرضى على العيادات في زحام شديد، معظمهم من غير الكويتيين، وعلى الرغم من أنهم يشكلون أغلبية، فإنهم الحلقة الأضعف في آلة الطبابة الضخمة تلك. يتراكم هؤلاء على أبواب العيادات بوهن على الوجوه وحسرة في العيون وهم يرون أدوارهم يتخطاها القادر والواصل وصاحب العلاقة، أحياناً تعلو شكواهم، ينضح الأذى على ألسنتهم ولكن سرعان ما تلجمهم حاجتهم الطبية وقلة حيلتهم الاجتماعية. لربما المستشفى تحتوى أفضل كفاءات طبية في البلد، ولكنها كفاءات مرهقة مضغوطة، يصل عدد المرضى التي يعاينها أحدهم إلى المئات في اليوم الواحد. تدخل على الطبيب فترى صفرة تعلو وجهه، بالكاد يرد تحيتك أو ينظر في وجهك، وبينما أنت تجلس تبث شكواك التي لربما هي خاصة جداً لهذا الطبيب المرهق المشتت الذهن، يدخل عليكما مرضى آخرون يقفون على بعد خطوات منك ينتظرون رحيلك، يمرق زميل أو زميلة للطبيب ليناوله شيئاً أو ليحييه أو يبادله دعابة وضحكة، تكاد لا تركز حتى في أوجاعك وتفقد كل قدرتك في التعبير عنها. يترنح الأطباء والممرضون وبقية خبراء المستشفى، معظمهم من أفضل الكفاءات، تحت ضغط العمل، ينسون الآداب النفسية للتعامل مع المريض، تأخذهم الأعداد الضخمة من المراجعين، فينطلقون كالقطار السريع، ينظرون أحياناً في حالتين أو ثلاث في ذات الوقت، لا فسحة لديهم لنظرة رقيقة أو لآداب السرير الطبية المتعارف عليها.
يخط الطبيب شيئاً ما على ورقتك ويرسلك لغرفة أخرى، وهنا تبدأ المعضلة الحقيقية، هنا يصبح الوضع “حارة كل من إيدو إلو”، لا تعرف أين وكيف السبيل؟ وفجأة تكتشف حلقة الوصل ومراكز القوى في المستشفى، إنهم العمال الآسيويون.
هؤلاء، بكل ضعفهم وقلة حيلتهم ومتاجرة التجار بهم، يخترعون طرقاً متجددة لكسب العيش، فيحفظون أروقة المستشفى ودهاليزها، يكونون علاقات مع بعض عامليها، وينتبهون تماماً لطريقة إتمام العمل بها. يتلقفك أحدهم ما إن ترتسم حيرتك على وجهك، يسحب ورقتك من يدك ويقودك إلى غرفة الأشعة أو التحاليل أو غيرها، يتمم هو معاملتك على الشباك وينتظرك أن تنتهي ويعود بك إلى طبيبك، زاجاً بجسده الصغير الضعيف بين المرضى ليدفع بورقتك ويضمن لك مكاناً متقدماً علّ محاولته تلك تلقى رضاك، بعدها يقف يناظرك منتظراً الجزاء. لتتم أي معاملة في المستشفى بسهولة يجب أن تدخلها وفي جيبك عدداً مكوماً من “الأنصاص” و”الأرباع” من الدنانير، تلك هي مفاتيح تنقلك وسرعة إنجازك، ثم تنتظر، وتنتظر وتنتظر، وبعدها تنتظر كذلك، فيفاقم الملل علتك وتختنق بروائح المرض وأكوام البشر من حولك وتنقبض بمرأى وجوه متألمة شاحبة لا تملك لها شيئاً تنتظر معك، وكأنكم جميعاً في مركب وسط لجة بحر هائج لا تظهر له يابسة.
لا ينجو من كل ذلك سوى هؤلاء أصحاب المعارف. أحياناً تتعقد شبكة الواسطة هذه، فقد تعرف طبيباً أو مسؤولاً في المستشفى، أو تكون واسطتك موظفاً صغيراً يربطك بطبيب، وأحياناً معرفتك هي عامل بسيط له “دالة” على موظف يربطك الأخير بطبيب. تضعف واسطتك حسب درجتها، إن كانت من الدرجة الأولى، فأنت قوي، تتخطى بها الأدوار، تتحصل بها على خدمة ممتازة ولربما مصحوبة بسلام وابتسامة، وإن كانت من الدرجة الثالثة أو الرابعة، فمع وصولك للطبيب، يضمحل أثرها وبالكاد تؤدي الغرض المطلوب منها.
الموظفون مرهقون والمرضى منهكون والعمال مضغوطون، في هذا المبنى الضخم، شاسع الإمكانات، قوي الميزانية، متهالك المرافق، قوي الكفاءات وضعيف التقدير لها في ذات الوقت، معجون بالوسائط والعلاقات المتشابكة، هل ترون معي كيف أن مستشفى مبارك هو نموذج مصغر عن الكويت، بلدنا الجميل؟