رحمه الله، ما زلت في أزمة وجودية منذ وفاة عبدالحسين عبدالرضا، فغياب حضور بهذه القوة يدفع لطرح هذه الأسئلة التي تؤرق البشر منذ أن تكون لديهم وعي يسائلهم عن وجودهم، وعي تستتب في أعماقه رغبة في خلق معنى وهدف لحياة ضئيلة لحظية لا معنى حقيقيا لها ولا هدف مؤثرا من ورائها. ولإطفاء الأشواق، أعود هذه الأيام لمقابلاته، أرى وجهه، أستمع لصوته، مستخدمة التكنولوجيا لإيهام نفسي بوجود عبدالحسين، باستمراره ولو فقط من خلف الشاشات المشعة الستاتيكية. من ضمن ما شاهدت، كانت له مقابلة على برنامج “تو الليل” حكى خلالها باستفاضة عن موضوع الرقابة، موضوع قلب المواجع وذكرني بسنة عصيبة من حياتي العملية.
عرض عليّ في سنة من السنوات عضوية لجنة إجازة النصوص المسرحية، على إثر هذا العرض شاورت بعض العاملين في المجلس الوطني متسائلة عن طبيعة اللجنة ودورها، كما قرأت مقابلة للأستاذة كاملة عياد تشير فيها إلى الدور التخصصي المطلوب من اللجنة من حيث ارتقائها بنوع الأعمال المعروضة على مسرح الدولة. وحيث إن هذه اللجنة مختصة في اختيار أعمال مسرح الدولة ولا تنظر في أعمال المسارح الخاصة الأخرى مثل مسارح الجامعات وغيرها، فقد استبدّ بي الحماس الساذج لإحداث نقلة نوعية في المعروض على مسرح الدولة، وقمت بعمل استطلاع بحثي سريع عن بعض ما تقوم به مثل هذه اللجان في الدول الأوروبية، خصوصاً فرنسا، والتي لجنة مسرح دولتها هي من أكثر لجان الدولة صرامة من حيث اختيارها للأعمال التي ستشكل وجه الدولة فنياً.
سرعان ما تدهور الوضع بعدها وأنا في أوج حماستي. نص بعد نص، مسرحية تلو المسرحية وأنا أجد نفسي، بعد أن كنت أعتقد أن دوري سيكون هو إغراق مسرح الدولة بالأعمال القيمة، الرافض الأول والأساسي في اللجنة. انقسم الرأي بعض الشيء في اللجنة التي حوت مجموعة من مختصي المسرح الرائعين في الكويت، جانب ارتأى تمرير الأعمال طالما لم تحو مخالفات لقانون المطبوعات، وجانب أصر على عدم تمرير سوى الأعمال الفنية الحقيقية القيمة، وهذا الجانب الثاني، كنت أحياناً وليس دائماً أقف وحيدة فيه. طبعاً للجانب الأول منطق مهم يستحق الاهتمام، فأولاً الرفض المستمر سيخلي مسرح الدولة من الأعمال خصوصاً أن معظم النصوص على درجة من الهبوط الفني أن ستخلص اللجنة إلى تمرير عدد قليل جداً إن لم يكن معدوما من الأعمال، وثانياً أن هذا التوجه سيؤثر اقتصادياً على الساحة وسيدخلنا في صراعات كبيرة مع مؤسسات قوية في الكويت ومع أشخاص نافذين في مجال الإنتاج الفني. ولأن مشكلتي أنني لا أمسك أي عصا من الوسط، وهذا فعلياً عيب وليس بأي حال ميزة لمن يعمل في المجال العام، فقط أصررت، وبقيت أنا، من اعتقدت أنني سأكون أول مدافعة عن الأعمال ومشجعة لظهورها، أرفض النص تلو الآخر بعناد فيل يسرع بخطواته الثقيلة نحو النهاية.
ثم زاد الطين بلّة حين بدأت حملة من الهجوم الخارجي تتهمني بالتنفع من عضوية لجنة رقابة طالما وقفت أنا ضد مفهومها. بذهول كنت أرد، أي رقابة، هذه لجنة إجازة نصوص، تختار النصوص المسرحية لمسرح الدولة، يردون بأنها محكومة بقانون المطبوعات، فأقول كل حياتنا محكومة بقانون المطبوعات، وحربنا معه مستمرة وبشكل يومي، وكل الأكاديميين في مختلف مؤسسات الدولة يتعاملون مع هذا القانون حين إجازة كتبهم في مؤسساتهم مثلاً، حيث كنت وقتها (ولا أزال) أرأس لجنة أخرى في عملي مهمتها إجازة الكتب العلمية في القسم العلمي. تضببت الرؤية بشكل حقيقي، وما عدت قادرة على فهم الأحداث. كان عزائي هو تمرير لجنتي الرائعة نصا بدت فيه “محاذير رقابية”، إلا أننا أصررنا على إجازته، حيث كان أفضل نص عرض على اللجنة بلا منازع، لكي يتم عرضه خارج الكويت وباسمها. كما أننا رفضنا نصا آخر بسبب تطابق نصه مع نص عالمي مما أثار لغطا أصررنا نحن على تجاهله والاستمرار في ما ارتأيناه الموقف العلمي الأخلاقي الصحيح. كانت مثل هذه الإنجازات الضئيلة تخفف عني شخصياً، وبدت وكأنها أهداف تستحق السعي، نعم هي منمنمة مقارنة بالهدف الحلم الذي بدأت به، إلا أنها بقيت ذات معنى في خضم الغرابة التي كنت شخصياً أخوض غمارها.
اعتذرت سريعاً عن السنة التالية، ليأتي رد أخي وصديقي العزيز د. فيصل القحطاني أن “ما كنت أتوقعك تستسلمين سريعاً يا ابتهال”، فقلت له هذه حرب خاسرة أيها الصديق العزيز، فلم تكن خطتي أن أقاوم الرقابة في عقر دارها حين قبولي بالعضوية (والتي هي خطة ممتازة ومحترمة وإن لم تكن فعلياً خطتي في ذلك الوقت)، الخطة كانت، ويا للسذاجة، إعادة المجد لخشبة الكويت المسرحية وتحويلها لشيء يقترب من الخشبة الفرنسية، ثم إن قانون المطبوعات مضافاً للوسائط وقوى المتنفذين يجعل المهمة شبه مستحيلة، كأنك تجدف في بحر من طين. لم يرض الدكتور عن ردي ولم أرض أنا به في دخيلة نفسي، لكن ما بدا أن هناك خيارا ثانيا. وهكذا مات الحلم من السنة الأولى، قتله الغياب الصارخ للنص المسرحي الحقيقي، غسله قانون المطبوعات، كفنه تدخل المتنفذين، وصلى عليه الأصدقاء، الذين ارتأوا في وجود المسرحيين المؤمنين برسالة المسرح (أشير لكل زملاء اللجنة نخبة أكاديميي المسرح) في لجنة إجازة النصوص المسرحية خيانة لحرية الرأي.
لهذه التجربة مرار لا يزال عالقا في البلعوم. لربما لم أحارب كفاية؟ لربما لم أحارب بشكل صحيح؟ تسرعت في الاستسلام؟ لا أعرف حقيقة، لكنني أعرف أن عبدالحسين صحّى المواجع وأصاب العصفورين بحجر كلماته: عصفور الحرية وعصفور النص المسرحي الراقي، كلاهما أعطياكما عمرهما.