«بجاحة»

 لدينا قوانين في كل أجهزة الدولة، ولدينا أقسام شرطة ومحاكم، ولدينا في كل جهة رسمية إدارات تنظم الأمور، وتحق الحق وتحكم بين الناس بالعدل إن هم اختلفوا، إلا أن هناك ما يعلو القوانين ويسطو على الإدارات، يرخص الغالي ويغلي الرخيص، يرفع الهابط ويهبط بالمرتفع، إنه مسبب الفساد الأول: «الواسطة».

هي شكوى مكررة بكلمات مكررة، لكنها لا تخلو من غرابة طريفة أو طرافة حزينة تجعل التكرار مبررا متوقعا، فشعبٌ أحد أكبر روافد حواراته الرافد الديني، وأحد أهم، إن لم يكن الأهم على الإطلاق، المسيرات والمحركات لحياته هو المسير أو المحرك التعبدي، ومع ذلك ينخع الفساد في قلب ممارساته بشكل يصنع تناقضاً كوميدياً عجيباً، صورة “اسكتشية” مضحكة للشيء ونقيضه في اللقطة ذاتها.

الشعب الكويتي شعب خير، يسارع لمساعدة المحتاج وينهض للتكاتف عند المواجع والمصائب، كل هذا لا يمكن نفيه، إلا أن ما لا يمكن نفيه كذلك هو أن “سيستم” حياته اليومي مسير بأدوات فاسدة، أدوات نخرت عظمه واستقرت في أوردته، فما عاد حتى يشعر بها كأدوات دخيلة مريضة. لدينا قوانين في كل أجهزة الدولة، ولدينا أقسام شرطة ومحاكم، ولدينا في كل جهة رسمية إدارات تنظم الأمور، وتحق الحق وتحكم بين الناس بالعدل إن هم اختلفوا، إلا أن هناك ما يعلو القوانين ويسطو على الإدارات، يرخص الغالي ويغلي الرخيص، يرفع الهابط ويهبط بالمرتفع، إنه مسبب الفساد الأول: “الواسطة”.

والسبب في غرابة وطرافة وتراجيدية الواقع هذا في الوقت ذاته هو أنه يشكل صورة متناقضة لوجه هذا الشعب المنعم، فنصف وجه هذا الشعب ملتح معمم لا يتحدث سوى بالحلال والحرام، والنصف الآخر منفوش الشعر أحمر العينين، مستعد أن يدوس على كل ما أمامه ليحقق مصلحته. عندما خابرني في منتصف الليل يطلب “واسطة” لأحد الطلبة، سألته، ولكن ألا تخشى الله الذي به تؤمن؟ فقال وما العلاقة؟ وعندما حاولت أن تروج أحد أقاربها الذين يأخذون استعدادا لانتخابات مقبلة وهي الأعلم بفساد سيره، سألتها ألا تقلقين حساب القبر؟ فقالت وما العلاقة؟ وعندما تحدثت عن كراهيتها لفئة وافدة في الكويت وهي تضع حجابها على رأسها زجرتها أن تكف أذاها وإلا ستحرقها النار التي فيها وتهدد أبناءها طوال الوقت، فقالت: وما العلاقة؟ على ما يبدو، يعتقد الناس أن للخالق تخصصات معينة، ينظر في عدد ركعات صلاتك، ووصول ماء الوضوء إلى كوعك، ودخول بعضه الذي تتمضمض به أثناء رمضان في حلقومك، وأما وساطتك لتأخذ حق غيرك أو تمنعه ما يستحقه، ووقفتك البدائية الجاهلة مع من هم من بني دمك، وتحقيرك لشعوب كاملة، واستعلاؤك، واستخراجك طبية دون مرض، واستحواذك على دعم العمالة دون عمل، هذه كلها ليست من تخصصات الخالق، هو لا يقيمها ولا ينظر فيها.     

نحن في خطر لأن الفساد أصبح جزءاً من يومنا العادي، لأننا أصبحنا لا نستشعره، لأننا لا نربط آثاره بالدين الذي نطنطن ولا بالخالق الذي نخشى ولا بالمساجد التي نملأ ولا بالآيات التي نقرأ، لأن القوانين تطرى أمامه، والحواجز تخترق من أجله، والدين يؤجل لسواد عينيه، والأخلاق توضع في الثلاجة عندما يقدم هو على سفرة الطعام. نحن نحيا تناقضاً هداماً وبكل أريحية وطبيعية وعلنية وبجاحة، نحياه بدون إحساس، بدون خجل أو وجل، ولربما هنا تكمن الغرابة بطرافتها وحزنها.