خابرتني لولوة بصوت منطفئ، كلماتها رتيبة عبر سلك الهاتف، معلقة بالأسلاك مثل غبار هذه الأيام الذي لا يرحم، “خبر زين يا لولوة أرجوك؟”، تمنيت عليها، وبلكنة بحرينية عميقة نعت “الدنيا داكنة هنا” توقفت كلماتي حصى في الحلق، فانطلق حديثها غير مقطوع بخواء المواساة المعتادة في هذه المناسبات.
“القلوب مكسورة” شرعت تقول “أمام عيني، صداقات امتدت عشرين وثلاثين سنة، علاقات ود في الدوام، أسر بأكملها، تسلخت جميعاً بسياط الطائفية. تصدقين؟ أصدقاء في العمل لم يعودوا يتحادثون، أحبة توسطهم الشوك، وأسر كانت “شاكليت” شيعة وسنّة، اليوم ذابت “شوكولاتاتتهم”، ولم يبق سوى المرار يتقاذفونه”.
لم أجد سوى “الأمرّ منه” لأهون عليها به، فترددت كلماتي سخيفة خاوية من المعنى “على الأقل الأسى لم يتسع اتساعه في سورية، والخراب لم يستفحل استفحاله في اليمن”، ساءتني أنا ذاتي مقارنتي المعقودة، وقد أكون هيجت جراحها في محاولتي الساذجة لتطبيبها، والأهم والأخطر أنني كنت أدرك أنها تدرك أنني أكذب عليها.
الحق أنني أردت أن أشكو أنا أيضاً، أن أهون عليها مصيبتهم بمشاركتها مصيبتنا، لكن كم سيسع الأثير من مصائبنا العربية؟ كنت أود أن أحكي لها عن حكومتنا، والتي مثل “فتح” و”حماس”، تركت المشاكل الخارجية ومسكت في خناق بعضها داخلياً، حكومة من أغرب ما مرّ علينا من حكومات، تكره بعضها قبل أن يبدأ عهدها، تحفر لأعضائها وتتآمر على نفسها في مشهد سيريالي يثير الأسى. كنت أود أن أخبرها عن نوابنا الذين سكبوا ماء الحياء على سجادة “قاعة عبدالله السالم” صفعاً وركلاً، وبعدها بيوم تطرقعت القبل وتلاقت الكفوف في مشهد كوميدي مقزز يحاول من خلاله هؤلاء جمع الماء من بين وبر السجادة وإعادته إلى زجاجة الكرامة. كنت أود أن أفضفض لها عن نواب غريبي الأطوار، يذكرونني بإنكلترا العهد الإصلاحي، حيث يبيت البلد كاثوليكياً ويصحو بروتستانتياً بأمر من حكومته، ولا يكاد يستقر في سريره بروتستانتياً حتى يقلبه صباحه إلى كاثوليكي مرة أخرى، وكله بأمر الحكومة، وهكذا هم النواب يبيتون كاثوليكاً، عفواً، أقصد حكوميين، ويصبحون معارضة، ولا تكاد تمر عليهم ليلة معارضة حتى يصبحون وقد “غيروا رأيهم” إلى حكوميين، وكله بأوامر عليا، أو بسبب انفصام حاد في الشخصية، الله أعلم.
كنت أود أن أضحكها معي على تعامل الحكومة مع حق المواطنين في التظاهر حين يسبقونه بظهور “لكبارات الداخلية” ليخبرونا أن صبرهم، مثل معاشاتنا يوم خمسة من الشهر، على وشك النفاد، ثم أضحكها أكثر على سبب التجمع والذي يهتف من خلاله المواطنون خلف نوابهم ليس فقط برغبتهم في إسقاط رئيس مجلس الوزراء، والتي هي رغبة منوطة بأغلبية المجلس لإعلان عدم التعاون دستوريا، ولكن أيضاً مطالبة بالحرية التي طالما ساهموا هم أنفسهم في تكبيلها.
كنت أود أن أتقصى معها صلب الخراب فأسألها “ماذا تعلمتم في المدرسة يا لولوة؟ في بلد أغلبيته شيعة، هل درستم شيئاً عن التعددية الدينية والمذهبية حتى يقل الاغتراب في المجتمع؟”، ثم كنت أود أن أدغدغها بشيء مما يرد في مناهجنا حول “التركيب العضوي المميز للرجل” و”مفاسد النساء” و”كفر زوار القبور” و”عادات أهل الجن” و”أهوال عذاب القبر وجهنم” إلى آخره، مما أوصلنا إلى العقليات الخلاقة التي تشرع للمجتمع اليوم وتنفذ فيه هذه التشريعات، وهل تحتمل لولوة لو أخبرتها عن تحول مجتمع بأكمله إلى حلقة حديدية “بدون” قلب و”بدون” منطق، يهمل بقسوة، ولا يزال، قضية أبناء له عاشوا في رحابه حتى يأتي يوم لن يمهلهم في حلول خرابه؟ وهل أسر لها بأن الدولة، في محاولتها لحل المشكلة، وضعت من لا يؤمن بالقضية أساساً ليحلها وينهيها؟
حكاياتي كثيرة يا لولوة لكنها لا تقترب في حزنها من حكاياتك، ولا ترقى إلى قدسية ألمك وأنت ترين “اللؤلؤة” تتدحرج عبر “الدوار” وتذوب في ملح الخليج. احكي يا لولوة أو انعي، أو أنصحك أنا نامي…”نامي على زبد الوعود/ يداف في عسل الكلام”، نامي يا لولوة أرجوك “نامي تريحين الحاكمين/ من اشتباك والتحام”.
«آخر شي»:
النائب حسين القلاف، وأنت تضع ابنك في سريره كل ليلة آمناً، أودك أن تترحم على “حمزة الخطيب” الطفل السوري ذي الثلاثة عشر ربيعاً الذي توفي بعد تعذيب وتنكيل وتقطيع على أيدي النظام السوري الذي تدعو له بالنجاح والتوفيق، فإن لم تشعر بحرقة في القلب فأنت بحاجة إلى مساعدة، وإن شعرت فابعث بعمامتك ليكفنوا بها الصغير اعتذاراً وتكفيراً، وهذا أضعف الإيمان يا سيد، هذا أضعف الإيمان.
* العنوان والأبيات أعلاه من قصيدة «نامي جياع الشعب نامي» للجواهري.