في لقاء إذاعي تشرفت بالمشاركة فيه عبر إذاعه «مسقط إف إم» وجاء بعنوان «حواء على الهوا» تناقشتُ ومحاورتي الأستاذة شريفة البرعمية، حول العديد من القضايا النسوية تحديداً في عالمنا العربي، إلا أن نقطة مهمة من الحوار بقيت عالقة في ذهني، متمنية الفرصة للتوسع فيها، وذلك لأهميتها ولقلة ما يتم تداوله حول خطورتها. تتواجه القضايا النسوية والحراك النسوي عموماً في عالمنا العربي بالكثير من السخرية، حيث لا تؤخذ القضايا النسائية مأخذ الجد في غالب الأحيان، مما يحول هذه القضايا غالباً إلى مرتع حار كبير لكثير من المزحات الثقيلة والسخريات اللاذعة. وعلى الرغم من أن السخرية هي أحد أهم أساليب النقد والمعالجة الحداثية، إلا أن الطريقة «السلبية» التي يتم بها التداول الساخر لقضايا المرأة هي طريقة خطرة ومدمرة في آن.
يرتكز التعامل الساخر مع قضايا المرأة على أساس غائر عميق وقديم لفهم تسطيحي لنفسية المرأة وطبائعها، حيث إن الأغلبية الساحقة من المجتمعات البشرية، حتى المتحضر منها، هي مجتمعات أبوية متشبعة بفكرة «هورمونية» وعاطفية المرأة التي تجعل منها مثاراً للسخرية ومصدراً للمزح والتندر. يلاحظ ذلك بوضوح في التعامل مع غضب وثورات المرأة التي لا تؤخذ مآخذ الجد كثيراً، حيث إما أنه ينظر إليها على أنها حالات انفعالية «هستيرية» كما كان التشخيص السائد للانفعال النسائي حتى منتصف القرن العشرين، أي أنها حالات مرضية نفسية خارجة عن نطاق سيطرة المرأة، أو ينظر إليها على أنها حالات «قلة عقل» ونقص في القدرة على التحكم في النفس وفقر في ملكة المنطق، التي توشم بها المرأة بحكم جنسها. يدفع تقييم المرأة هذا، الإنسان إلى النظر إليها على أنها كينونة عقلية ونفسية أقل مستوى، ما يستوجب التعامل معها معاملة الأطفال، أو في أفضل الظروف، معاملة الإنسان الأقل قدرة على التحكم بالنفس والأقل فاعلية في تمكين العقل والمنطق. وعليه، نجد أن النساء والأطفال دائماً ما يوضعون في الخانة ذاتها، وحتى في حالات الطوارئ يتم تقديم مساعدتهم مجموعين على أنهم الضعاف غير القادرين على حماية أنفسهم: «النساء والأطفال أولاً».
ولو أن الموضوع وقف عند «المعاملة المتميزة» لكانت تلك أعطية. ولو أنه توقف عند المزاح، وإن كان سمجاً ثقيلاً أو غبياً، لكان ذلك محتملاً. لكن الواقع أن هذه النظرة المبتذلة لعقل المرأة والمغلفة بالمزاح أحياناً وبادعاء الرحمة والرعاية أحايين أخرى، هي نظرة مكلفة جداً. كلفة هذه النظرة المبتذلة واضحة لا تحتاج إلى شرح، وأهم دلائلها هي وجود المرأة في قاع الهرم الإجتماعي والاقتصادي والسياسي في كثير من المجتمعات وإلى يومنا هذا. إلا أن ما لا يتم تقديره حق قدره هي كلفة المزاح الحقيقية حول هذه النظرة المبتذلة، والذي يرى الكثير من الرجال أن غضب المرأة منه، أي المزاح، هو دلالة أبعد على «صغر عقلها» وسرعة انفعالها. تُرى، كيف سيتجاوب الرجل لو أن المرأة مزحت على مرأى ومسمع منه بالأسلوب ذاته: نكتة حول زواجها بآخر.. مزحة حول رغبتها في رجل يمر أمامها.. دعابة حول سخافة الرجل في حياتها وتحملها إياه كما يتحمل السجين قضبان سجنه. ترى، كيف كان ليرد على هذه الدعابات؟ هل كان سيبتسم ويتصنع الغيرة والدلال إذا ما أشارت زوجته بمزاح إلى رغبتها بغيره؟ وهل يا ترى، سيتم الحكم عليه بنقص العقل والحكمة إذا ما انفعل تجاه مزحتها؟ المشاعر واحدة عند الجنسين، الغضب واحد، وجرح الكرامة واحد، ما يفرق هو العيون والآذان العنصرية التي تستقبل المواقف وتقيمها.
إذا كنت ممن يمزحون مع النساء حولهن وحول عواطفهن، أو حول مَللك ممن تقبع في بيتك واشتهائك جمعها بأخريات «لولا الظروف» فخذ لحظة تقيم بها الصورة التي تصنعها هذه الدعابات للمرأة أمام أولادها وأمام نفسها ومجتمعها، فإذا كنت لا ترى بعدُ بأساً في هذه الصورة، فتخيل صورتك بعد أن تُلقى عليك هذه المزحات في العلن، فإذا أغضبتك أو جرحت كرامتك أو أصابت «شرفك» فاحجم عن إلقائها على المرأة في حياتك، فالقلب واحد والمشاعر واحدة والكرامة واحدة، وتأثير الكلمات في صنع الصورة ثم صنع الحياة ثم صنع الواقع هو تأثير لا يمكن التقليل أو الاستخفاف بقواه. مزحاتك التي تتصورها بريئة غير مؤذية، قد تخلق عالماً بشعاً تضطر النساء للحياة فيه. فاحجم واحترم، تماماً كما تُحجم عن مداعبة شخص أسود في موضوع العبودية على سبيل المثال، لا تجعل من السلوكيات العنصرية المريعة البغيضة مادة عادية ومقبولة بدس سمها في عسل الدعابات. كفوا أذاكم أيها المازحون، تراها باخت وطالت وذهب عنفها لأبعد مما تتخيلون.