تناقش العديد من الأبحاث العلمية والفلسفية المعاصرة، منها أبحاث نسوية بحتة كذلك، فكرة التقسيم الجندري البسيط إلى ذكر وأنثى. في الماضي، كان المظهر والطبيعة محددين للجنس، إلا أنهما سريعا، ومع دخول العصر الحديث بتطوره العلمي، أثبتا فشلهما في تحديد الجنس البشري، حين تبين بحثيا تبادل الأجناس البشرية المختلفة للطبائع الاجتماعية.
من هنا كان التساؤل حول ما إذا كانت هذه الطبائع جينية أو مبرمجة اجتماعيا، وحين أثبت المظهر الفسيولوجي خداعه أحيانا وحياده أحيانا أخرى بما لا يمكن معه الاعتماد عليه لتحديد جنس بشري معين؛ أتى العلم ليقسم البشر طبقا لما يوصف بأنه كروموسومات ذكورية وأنثوية، إلا أن الدراسات الحديثة تدل على أن الكروموسومات ليست مقياس دقيق في الواقع للأنوثة والذكورة، وأن الأجساد البشرية من التنوع والغرابة بما يتيح لربما بمنح كل إنسان جنس خاص به.
فكان أن ثارت الأسئلة: هل الذكر “الكروموسومي” الذي يفتقد بعض الأعضاء الذكورية يعتبر ذكر فعلا؟ هل الأنثى التي أزالت مبايضها ورحمها أو لم تولد بهم أصلا تبقى في خانة الأنوثة؟ اكتشف العلم التنوع البشري الجيني والتركيبي الهائل الذي طالما وضع العديد من البشر في أزمة هوياتية جندرية، إلا أن هذا العلم على خطواته الشاسعة لا يزال عسير الهضم على معظم البشر، دع عنك على فئتنا الشرق أوسطية منه المغمورة في المفاهيم المجتمعية القديمة والقراءات العقائدية الثابتة والتي لا مجال معهما للنظر إلى ما هو أبعد من التقسيمات البسيطة البديهية التي هي مصدر تأطير مريح للإنسان.
إن أول ما يلاحظه الإنسان في نظيره هو جنسه، أول الأحكام تطلق وأول الاعتبارات توضع وأول الحدود ترسم بناء على هذا التعريف الجنسي، لذلك، فإن اتساع التعريفات وتضبيب المفاهيم سيخلق عقدة عويصة جدا خصوصا في مجتمعات محافظة منغلقة، أغلب أفكارها ومجمل أخلاقياتها مبنية على حدود العلاقة بين الذكر والأنثى، وهي العلاقة التي تحددها الرغبة أكثر من أي شيء آخر في مثل هذه المجتمعات.
أن تتعامل مع الشخص الذي أمامك على سبيل المثال من منطلق فكره أو طرحه أو طبيعته النفسية دون أن تكون كل تلك في إطار جندري هي فكرة صعبة التنفيذ في العالم البشري عموما ولكنها عصية على مجرد التخيل في عالمنا العربي الشرق أوسطي تحديدا. كل الأعراف والعادات الاجتماعية، كل الفلسفات العقائدية والقواعد الأخلاقية عندنا مبنية في عمقها على أساس من هذا التناظر الجنسي أو هذا التضاد الثنائي بين الذكر والأنثى، فإذا ما رفع هذا التقسيم من المعادلة، يدخل الناس في حالة من الفوضى النفسية والفكرية، هذا طبعا بخلاف معضلة التصادم مع الخطاب الديني السائد والذي يجعل من مجرد محاولة فهم التعدد الجنسي البشري عملية عصية على التنفيذ.
يقول حسين محمد حسين في مقاله المعنون “الذكورة والأنوثة والأجناس الخمسة” والمنشور في جريدة الوسط البحرينية بتاريخ 17 تموز/يوليو 2011 “يصنف الفرد على أنه ذكر أو أنثى اعتمادا على الشكل الظاهري والوضع التشريحي الوظيفي الداخلي بالإضافة للخصائص والمميزات النفسية والتي تشمل الميول وهي التي تعرف في مجموعها بالطباع الذكورية أو الأنوثية. وهذا يعني أن هناك ثلاثة معايير أساسية يصنف الجنس حسبها وهي: الشكل الظاهري، والوضع التشريحي الوظيفي والطباع، وفي بعض الثقافات يضاف معيار آخر وهو الدور أو المهام التي يقوم بها الفرد وهي عادة ما ترتبط بالميول. وبحسب هذه المعايير لا يوجد عندنا فقط ذكر وأنثى بل يوجد خمسة أجناس مختلفة، على الأقل، من البشر فبالإضافة للذكر والأنثى هناك ثلاثة أجناس أخرى تعرف باسم الأجناس الوسطية أو البينية Intersexes”.
فعليا، يذهب التقسيم الجنسي البشري في بعض المجتمعات إلى خمسة أجناس، أي أن هناك مجتمعات تعترف بأجناس بشرية خمسة، ولربما في بعضها لأكثر من ذلك. بعض هذه المجتمعات يكون تقسيمها للأجناس مختلف عن المتوقع، منها مثلا بعض المجتمعات الهندية الغائرة في الطقسية والتي تميز خانة جنسية محايدة، لا ذكر ولا أنثى.
بعض الأبحاث العلمية ترمي إلى فشل فكرة التقسيم والتأطير الجنسي أساسا وذلك لتميز كل جسد بشري عن نظرائه، مما يجعل من كل حالة بشرية، كما ذكرت أعلاه، جنس بشري منفرد.
ما يعقد الموضوع هو أن التقسيم الجنسي، كما يشير حسين محمد أعلاه، لا يعتمد فقط على الدراسة الفسيولوجية للجسد، ولكن تدخل التركيبة النفسية بقوة على الخط صانعة عامل أساسي في تحديد هذه الهوية، هذا بالإضافة، كما تقول بعض الدراسات، للهرمونات الخفية التي تطورت، على سبيل المثال، في فترة الحمل، وما ألصقته بطفل “ذكر” من نزعات أنثوية أو العكس.
تتعدد هنا العوامل والزوايا التي يجب من خلالها النظر لهذه المعضلة التصنيفية وصولا إلى حد ـ كما يقول بعض العلماء ـ هدم فكرة التصنيف من أساسها ووجوب اللجوء إلى تصنيفات بشرية أخرى أكثر علمية وأقل عنصرية وتمييزا.
الفكرة صعبة جدا بالعموم، إلا أنها عسيرة بدرجة أعظم علينا نحن تحديدا في بلداننا العربية الإسلامية التي تبنى فيها قوانين أحوالها الشخصية وتقسم فيها الحقوق الاجتماعية بل وحتى القوى السياسية والاقتصادية طبقا للتصنيف الجندري، فالأسرة والحقوق والواجبات الموزعة على الناس وهرمية السلطة المجتمعية، وامتلاك حق الطلاق مثالا، وهرمية السلطة المالية، والتميز في حق الميراث مثالا، كلها ذات تصنيف ذكوري أنثوي بحت؛ فإذا ما أثبت العلم خطأ هذا التقسيم الثنائي البسيط، ماذا سيحدث لنا، وأي خلل سيصيب هوياتنا المعتلة أصلا؟ والسؤال الأهم، هل سيستطيع الخطاب المجتمعي من جهة والخطاب العقائدي من جهة أخرى مواكبة التطور العلمي الفاحش هذا وإيجاد منطقة سلام معه؟