النار

حقيقة، أعاني كثيراً عند تدريس ابنتي لمادة التربية الاسلامية لوزراة التربية في دولة الكويت، وعلى حد علمي، فان الكثير من الآباء والأمهات في مختلف أنحاء العالم العربي والاسلامي لهم ذات المعاناة مع تلك المناهج. وفي خضم تلك المعاناة، تجدني أحياناً أحاول تلطيف ما يرد، وأحايين أخرى أجتهد في تفسيره بصورة مخففة تتلائم وعمر صغيرتي وعقليتها كطفلة في القرن الواحد والعشرين. يخبرني بعض الأصدقاء من دول خليجية مجاورة ودول عربية أبعد جواراً أنهم يعيشون ذات الصراع بين الترهيب الممنهج في المدارس وبين المحاولات الأسرية لتوفير بيئة صحية آمنة للصغار كي يكبروا فيها بعيداً عن العنف اللفظي والجسدي والروحي، هذا العنف الذي يتحول، بعد أن يستقر في نفوسنا، الى ما يشبه العاهة المستديمة التي نحيا بمخاوفها ونواقصها طوال أعمارنا. وليت لكل هذا التشويه النفسي من أثر ايجابي واحد، فلا هو منع الناس عن خطأ، ان لم يكن قد برره لهم في الواقع، ولا هو الذي طهر المجتمع من الآثام، ان لم يكن أمن زيادتها بترعرعها المستمر في الظلام.
ترى، ما هو مردود هذا الصراع الذي نعيشه بشكل يومي على عقول وقلوب صغارنا؟ ما هو مردود وأثر هذا الانفصام الحاد بين العقل والمنطق وبين ما يرد في الكثير من صفحات المناهج الدينية في العالم العربي على هؤلاء الصغار، بين الشعور بالأمان الذي يجب أن يوفره البيت والشعور بالرعب والفزع الذي توصله تلك المناهج؟ في درس عنوانه ” للصف الخامس من منهج التربية الاسلامية في دولة الكويت، والمشكلة تبدأ من عنوانها، يقول النص ‘عندما يتم حشر الخلائق ويشتد بهم كرب يوم الحشر تدنو منهم الشمس مقدار ميل فيكون كل انسان في عرقه على قدر عمله ويتمنى الناس الانصراف ولو الى ‘ (23). اذن فالجميع، الطيب والخبيث منهم، يحشرون مكروبين، يذوقون عذاباً مبدئياً يجعلهم يتمنون . يستمر الدرس مقسماً الناس بين مؤمنين يدخلون الجنة وكفار يدخلون ‘محقرين ومهانين’ (23). يعدد الدرس سبعة أسماء للنار، ترسيخاً لغوياً للرعب والعذاب. وبعد تعداد المستحقين للنار بجمل مطاطية مثل ‘كل متكبر، معاند، مغرور، ظالم’ (25) يمكنها أن تشمل كل من لا يأتي على الذائقة، يأتي الدرس على ‘هول وعذابها’ فيقول ‘عذاب لا يمكن أن تتصوره عقول البشر من فظاعته وشدته فقد وصفها القرآن بأن لها تغيظ وشهيق وزفير وفوران ويأكل بعضها بعضاً وتتقطع من الغيظ على الكفار والمنافقين والعصاة وأسماؤها معبرة عن ألوان العذاب فيها وكلما نضجت جلود المعذبين فيها بدلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب’ (25). هذا الوصف، الذي ورد شبيهه في العهد السومري القديم في ملاحم اسطورية مثل ‘ملحمة جلجامش’ واستمر قروناً طويلة وصولاً الى الأديان السماوية الحديثة، حيث استخدمت المسيحية الكاثوليكية ذات الوصف المرعب هذا تكميماً لكل نزعات التحرر الانسانية، هذا التفزيع النفسي هو الاسلوب الأقدم والاكثر كلاسيكية لمحاولة اخضاع الناس وقهرهم ووضعهم أسفل سيف خفي مستمر يتسلط عليهم حتى وهم في خلوتهم مع أنفسهم. يأتي هذا التوصيف اجتهاداً من ‘خزنة’ هذه الأديان، ففي حين أن الكتب السماوية قد لا تنص تحديداً على كل تلك الأهوال، يبالغ ‘الخزنة’ في التوصيف والتخويف امعاناً في احكام قبضتهم على الناس. الا أن ما لا يستوعبه متسلطو القرن الحالي أنه اليوم لم يعد لهذا الاسلوب ذات التأثير، وها هي المسيحية ترنو الى المحبة والتسامح بعد قرون من التخويف والترهيب، عندما تعلمت الدرس بأن للخوف حد ينقلب بعده الناس عليه وعلى أنفسهم، حتى لا يعود لهذا التخويف أثر أو تأثير.
في العرف الانساني العالمي اليوم، تخويف الاطفال وارهابهم بهذا الشكل (المنهج أعلاه يدرس للصف الخامس أي للأطفال ما بين سن العاشرة والحادية عشرة) هو صورة من صور الايذاء النفسي الذي قد يأخذ بعداً جسدياً كذلك. كيف أعلم صغيرتي عن التسامح الديني ورحمة الاله، ثم أخبرها عن حشر سيكربها حتى لتتمنى ، ثم نار ستحرق واصليها في صور تعذيب سيريالية تتحدى أعتى عقول مؤلفي أفلام الرعب. هل من فائدة نفسية لتعليم صغارنا هذا الهول من العذاب؟ هل من فائدة أخلاقية لحثهم على الالتزام خوفاً من اله سيطورون حساً معادياً له، فيبدو وكأنه مصدر عذاب يجب أن يتجنبوا ايقاظ غضبته؟ هل هذه صورة الخالق التي نريد لأطفالنا أن يحيون بها؟
أريد لابنتي حياة هادئة بعيدة عن عذاب الخوف والانشقاق النفسي، أريد لابنتي ايماناً بأن الحياة محبة وسلام، وأنها يجب أن تأتي خيراً لأنها تريده وتؤمن بفعاليته في الحياة، وأنها يجب أن تبتعد عن الشر لأن انسانيتها تنفر منه ولأنها تريد التعايش مع غيرها والتسامح مع اختلافاتهم. لا أريد لابنتي أن تحيا بخوف يذوب العظام ويمسح الشخصية ويبيد القدرة على انتقاء الخير من الشر. فما السبيل؟