لا يزال هناك عدد من الأطفال “البدون” يقبعون في البيوت بلا تعليم. آخر الأخبار أنه تم تشكيل لجنة في إدارة التعليم الخاص لتلقي كل حالات الأطفال المحرومين من التعليم والنظر فيها، وذلك تحت إشراف السيد عبدالله البصري مدير إدارة التعليم الخاص. ولقد تواصت مع السيد البصري مرتين بخصوص الموضوع لتلقي المعلومة الصحيحة ومباشرة من منبعها، حيث كانت آخر مرة قبل أسبوعين تقريباً لسؤاله عن نتاج عمل اللجنة. ورغم امتعاض السيد البصري من اتصالي يوم خميس وتساؤله “المتنرفز” بعض الشيء عن شخصي وصفتي كي أتصل وأسأل، إلا أنه أكرمني بوقته وأجاب عن أسئلتي كاظماً غيظه عافياً عني.
وقد أخبرني السيد البصري أن عدد المتقدمين بلغ 100 طلب، أربعون تقريباً منهم كان قد تم ترتيب موضوعهم أصلاً، فأدرجوا في المدارس، أضيف إليهم ما يقرب من 16 طالباً وطالبة آخرين تم السماح لهم بالتسجيل في المدارس بعد نظر اللجنة في طلباتهم. بقي “شيء وأربعون” طالباً وطالبة دون تسجيل. سألت السيد البصري هل لديهم بلاغات ولادة فأكد ذلك، إذن ما المانع من تسجيلهم؟ أخبرني السيد البصري بأنه قصور في أوراقهم وإثباتات أصولهم أو إثباتات تواجدهم أو شيء من هذا القبيل، والحق يقال مازلت أجهل تماماً أين القصور في هذه الأوراق، وما مشكلة هؤلاء الأطفال تحديداً؟
والسؤال الأول هنا الذي يجب أن يطرح بقوة ويسبب مشكلة ضخمة لحكومة أي بلد مدني متحضر: لماذا تم تعطيل الطلبة الـ60 هؤلاء؟ هل هناك مصدر منع هؤلاء الأطفال حقوقهم ليتم محاسبته ومعاقبته؟ كيف منعوا الحق ثم تم منحهم إياه؟ على أي أساس؟ نحن نعلم أنه لن تتم مساءلة أحد فضلاً عن محاسبته، ففي أكبر قضايا الفساد وأعظمها نهباً لحقوق الأمة بأكملها تخفت الأصوات وتدار الظهور، فما بالك بقضية للحلقة الأضعف في هذا المجتمع، أطفال البدون، وحق “تافه ضئيل” مثل حق التعليم؟ عموماً نحن تعودنا ألا يتم التحرك في موضوع إلى حين إثارته إعلامياً وإحراج الحكومة علنياً، هكذا نحن، ألا يتم الإصلاح والتعديل، على ضعفهما، في هذا البلد إلا بفضيحة وطبل وزمر.
أما السؤال الثاني الأهم، والأمرّ، هو: ما مصير البقية الباقية من الأطفال المحرومين من التعليم؟ منذ خوضي في هذا المجال سنوات طوالاً، قلبي وعقلي يقولان إن العدد أكبر من “شيء وأربعين” بكثير، فالكثيرون يتجنبون التسجيل أو إعلان مشكلتهم تجنباً للاحتكاك بالمؤسسات الحكومية التي أقلها ستمعن في إهانتهم وستضيّق عليهم حياتهم الضيقة أصلاً، ولكن نظراً للتعتيم المستمر على الموضوع، فإننا لا نعرف حقيقة الأرقام والأعداد وليس هناك من وسيلة للتيقن من الحقائق، فيبقى عملنا عملاً تخمينياً تقريبياً في الكثير من الأحيان. النقطة الرئيسية في الموضوع أن هؤلاء الأطفال مولودون على أرض الكويت، ويحملون بلاغات ولادة، وهذه النقطة وحدها، طبقاً لدستور دولة الكويت، والمعاهدات والاتفاقيات المصدقة والموقعة، والتصريحات الحكومية المستمرة، والمناصب الإنسانية الرفيعة التي تقلدتها دولة الكويت، كفيلة بأن تضمن لهؤلاء الأطفال مقاعد دراسية دون نقاش.
كل طفل يولد على أرض الكويت يأتي بحزمة حقوق غير قابلة للتعديل أو المساومة، وحق التعليم على رأسها، إذن بلاغ الولادة يكفي ويزيد ليتم إدراج الأطفال في المدارس، ومن بعدها أنتم أحرار يا حكومة في التعامل مع الأهل وحل المشكلة بكل وسائل البيروقراطية والإذلال التي تحبون، الأول أدرجوا الأطفال في المدارس.
ولقد تواصلت كذلك مع السيد وزير التربية د. بدر العيسى الذي أبدى استياءه من عريضة الأكاديميين المطالبة بتعليم أطفال “البدون”، على اعتبار أن الدكاترة وجمعية أعضاء هيئة التدريس القائمة على النشاط غير معنيين بهذا الأمر، إلا أنه أوسع لي من صدره ووقته وأعطاني فرصة لعرض الموضوع تلفونياً، على وعد بمقابلة شخصية نسلمه فيها العريضة ونناقش الموضوع بتفاصيل أكثر.
ولقد اتصل د. محمد الخضر، رئيس جمعية أعضاء هيئة التدريس، بالسيد الوزير يوم الخميس الماضي لتحديد موعد، حيث قابله السيد الوزير بالترحيب بالزيارة، ولكنه رفض الحديث في موضوع الطلبة “البدون”، مخبراً د. محمد أنه قد أفضى بكل ما لديه، وليس لديه المزيد ليقوله ويناقشه، وأن رأيه وقراراته نهائية في هذا الموضوع.
والآن وقد أغلقت الأبواب، سيبقى “شيء وأربعون” طفلاً، إن لم يكونوا أكثر، نهب الشوارع، ولا أدري أي سياسة في الكون ترى في هذه الخطوة حلاً حصيفاً أو فاعلاً أو عقاباً مناسباً أو مثمراً لأهالي هؤلاء الأطفال، ولا أدري كيف “للمركز الإنساني العالمي” أن يستخدم أطفالاً لمعاقبة أهاليهم والتضييق عليهم، ولا أدري بأي وجه ندّعي أنه ليس هناك طفل بلا تعليم في الكويت، فهل هذه المخلوقات المحرومة لا تعد أطفالاً لأن أهاليها، إن صدق الكلام الحكومي، يخفون أوراقاً أو هوية؟ هذا مع العلم أن المدارس التي نتكلم عنها ليست المدارس الحكومية التي يباشرها “أطفالنا الأصليون”، إنها مدارس أهلية متهالكة بعيدة عن الحضارة بمراحل، حتى هذه لا تليق بالمخلوقات شبه الطفولية؟
وتبقى كل أمور “البدون”، كبارهم وأطفالهم، عالقة عند الجهاز المركزي الذي تعلو سلطاته سلطات كل الوزراء في ما يتعلق بهذا الموضوع، لقد شاهت سمعتنا وشاخت إنسانيتنا على أياديكم، في وقت أُعلِن فيه بلدنا مركزاً إنسانياً عالمياً، لربما هي كذبة أن الفلوس لا تشتري كل شيء.