مع كل مناسبة أو احتفالية تمر على العالم العربي الإسلامي يتصاعد نقاش حول مدى حرمة الاعتراف بالمناسبة أو الاحتفال بها. لا يكون الحوار حول طريقة الاحتفال، ولا حول العمليات الجمالية التي يفترض أن ترافقها، ولا حول كيف يمكن أن تجلب هذه الأفراح، النادرة أصلاً، الناس معاً فتقربهم وتجمعهم، إنما الحوار يلف ويدور حول تلك «الحرمة» التي دوماً ما تعزلنا عن بقية العالم، تقسي قلوبنا تجاه الآخر المختلف وتحرمنا نحن في حد ذاتنا لحظات من السعادة التي عادة ما تكون طارئة على المجتمع البشري المعجون بالآلام.
الفرح عزيز في ديارنا العربية الإسلامية، الفرح عورة يجب أن تُستر عندنا، فلا يظهر إلا في أقل الحدود، ولا يحتفى به إلا في أضيق النطاقات. نتشاءم نحن من الفرح، فنلازمه دوماً بجمل مثل «خير اللهم اجعله خير» حين نضحك كثيراً، ذلك أن وجوده طارئ ومشكوك في أمره، وكأنه لا يأتي إلا مُحَمَّلاً بالآثام ولا يتركنا إلا محملين بالذنوب. لقد ربط «وعاظنا» الفرح بالخطيئة، وكأن الورع والتقوى يتجليان في الحزن ويظهران في الاكفهرار ويقويان بالتجهم والعبوس. لقد أصبحت تلك هي الصورة الرائجة لمشايخنا، صورة هي أقرب لمظهر «كفار قريش» كما يبدون في المسلسلات العربية منها لرجالات دين سمحين متسامحين، حتى أصبح رجل الدين الضاحك السمح صاحب الدعابة مضرب مثل وحديث العامة. ولقد ظهر لي قبل أيام فيديو على انستغرام لرجل دين يلقي دعابة وهو يلبس نظارة شمسية ويتلفظ بجملة إنكليزية عامية، مما أثار الضحك بين الحضور والبهجة عموماً بينهم، ليلتف هذا الفيديو وينتشر وكأنه حدث خارق وخارج عن المألوف، ولربما هو كذلك بالفعل.
وها هو كريسماس يمر لترتفع ذات التحذيرات «البائتة» كأنها قطعة جبن قديمة ملقاة في الثلاجة لأسابيع عدة حتى بهت لونها وطفحت رائحتها، ليتبعه رأس السنة الميلادية ليصحب احتفالياته ليس فقط التحذيرات الدينية والتخويفات الأخروية، وإنما كذلك الإجراءات الأمنية الاحترازية، والكويت مثالاً، للتأكد من عدم تصاعد مظاهر البهجة والاحتفال. ومثل مصير هذين الاحتفالين يكون مصير احتفالات أعياد الميلاد، وعيد الحب، وعيد الأم، وغيرها من مناسبات لربما هي ليست في لب الثقافة العربية الإسلامية، إلا أنها بهجات عالمية يمكن للبشر كلهم أن يستمتعوا بها وسط أحداث حيواتهم الصعبة. وليت الأمر توقف عند ذلك، بل إن حتى لاحتفالاتنا العربية الإسلامية نصيب من النقد والتنكيد، فحتى أعياد المسلمين مُراقَبة ألا ترتفع فيها نسبة البهجة أو يقع فيها محظور من تخالط أو ابتهاج «غير وقور». ليس للبهجة مساحة كبيرة عندنا، فهي مصنفة على أنها استمتاع بالدنيا وحب لها، وهذا ما لا يفترض أن يكون من المسلمين الذين يجب أن يعيشوا ها هنا مؤقتاً، بعين مغمضة في الدنيا وعين «مفنجلة» على القادم بعدها، هذا القادم الذي صُور لنا على أنه امتداد لرغبات ذكورية من نساء وخمر دون أن يكون للنساء نصيب واضح ومفصل فيه، ودون أن تتعدى قراءته أصلاً المتع الحسية إلى ما هو أعمق وأهم منها.
تحت شجرة كريسماس هذه السنة احتفت ضيفاتنا المغتربات، العاملات اللواتي تركن عائلاتهن وأبناءهن وحيواتهن لينضممن لحيوات أسر غريبة عنهن، ليغامرن بالعيش في بيوت بعيدة مع أناس لم يعرفوهن أو يختبروهن، كل ذلك من أجل لقمة عيش بسيطة توفر أبسط أسس العيش الكريم لهن وعائلاتهن. الحقيقة أن هذا الحفل الصغير لم يكن يعني لي شيئاً عميقاً، فهي مناسبة لا تدخل ضمن ثقافتي وليس لها ذكريات طفولة في نفسي، إلا أن المعنى كل المعنى كان في هذا الفرح الذي وثب على هذه الوجوه الشرق آسيوية الصافية، في كلمات «التغالو» التي تبادلتها هؤلاء السيدات ابتهاجاً وحماسة، في الاسترجاع المؤقت لمشاعر أمان الوطن ودفء الأسرة وألفة العادة الاحتفالية بتوقيتها المحدد الذي تبدى، أي هذا الاسترجاع الحميم، على الوجوه وفي الضحكات وفي الأحضان التي تبادلتها السيدات وأكرمننا ببعض منها.
أبقت جوري شجرة الكريسماس قائمة في صالة منزلنا، مصرة على إنارتها كل ليلة وحتى أول أسبوع من يناير، وذلك تزامناً مع حدث مسيحي حاولتْ شرحه لي ولم أفهمه. لجوري صبي في الثالثة عشرة من عمره، يحيا بعيداً عن أمه وهي بعيدة عنه؛ من أجل تأمين مستقبله، ترى ما هو شعوره إبان هذه الأعياد؟ وما كان سيفكر لو علم بآراء بعض الوعاظ الذين يفترض فيهم الرحمة والإنسانية وهم يقولون بحرمة المشاركة في هذه الاحتفالات، وبأن فرحة أمه مكروهة عند مضيفيها؟
كل سنة نُجبر نحن على بلع قطعة الجبن البائتة تلك من ثلاجة الأفكار التي لا تتغير مهما مر عليها الزمن ومهما مر وقت على انتهاء تاريخ صلاحيتها. كل سنة نسمع الحرام والممنوع والمسموح، كل سنة ندور حول أنفسنا مع حوارات التوجس من الفرح الذي يورث حب الدنيا والبعد عن الورع، وكل سنة ننصب الشجرة ونشعل أضواءها القليلة، علها تضيء شيئاً من عتمة الطريق. كل عام والجميع بخير.