في أحد مقابلات نعوم تشومسكي، تحدث هو (القادم هو اختصار لفكرته وليس ترجمة حرفية لها) عن كيف أن مصدر العديد من أفكارنا (كبشر عموما) هو القراءات الدينية والتي منها مثلا فكرة أفضليتنا على غيرنا أو الشعور بأحقيتنا باستعمار الآخر من منطلق أننا منفذين لإرادة الإله ومنقذين للآخر باستعماره والإتيان به إلى طريق الحق والصواب والتحضر.
يضرب تشومسكي مثلا، وهو البداية الاستعمارية العنيفة للأرض الأميركية الشمالية والتي روج لها “الآباء المؤسسون” على أنها “الإتيان بفوائد الحضارة والتي تشتمل الديانة المسيحية للهنود والذين كانوا يترجونها، نحن نقدم لهم خدمة”. هذه الفكرة أوعزت لأخرى تقول “بمسؤولية الحماية” والتي هي “اسم آخر للإمبريالية”، حيث أن قدوم الأوروبيون لأميركا ما كان سوى استجابة لرجاء السكان الأصليين للأرض لقدوم هؤلاء وإنقاذهم لهم.
يؤكد تشومسكي أنه حتى هذه اللحظة لا تزال هذه الفكرة مستمرة بوضوح من خلال كل مناحي الحياة الأميركية خصوصا في المجال التعليمي. يضيف تشومسكي أن ثيودور روزفلت، خلال فترة رئاسته الثانية، قال ما معناه إنه من أجل مصلحة الأمة الأصلية نحن أبدناها، حيث أن ذلك مكننا كجنس أعلى لأن نحل محلهم، وهذه كانت فكرة شائعة بين العديد ممن يعتقدهم الشارع الأميركي أبطالا عظماء، والذين شكلوا أسطورة أننا، أي الأميركيين، جميعا أنكلوساكسونيين أصليين.
كانت هذه الفكرة قوية إلى درجة أن بنجامين فرانكلين قال إنه لا يجب السماح بهجرة الألمان والسويديين إلى أميركا لأنهم ليسوا بيض بشكل كاف. لا تزال هذه الفكرة، يقول تشومسكي، مستمرة ومتمددة عبر التاريخ الأميركي وصولا لوقتنا الحالي.
لم تنته هذه الفكرة الأميركية، الكلام لي الآن، حتى وقتنا المعاصر، استمرت رائدة في قيادة العديد من الحروب التي دخلتها أميركا، منها مثلا الحرب الأميركية المكسيكية التي مكنت أميركا من ثلث الأراضي المكسيكية وغيرها من التعاملات العسكرية المستمرة إلى اليوم. إلا أن الشيء المختلف في الحيز الأميركي هو إمكانية مناقشة هذه الفجوة الفكرية المظلمة والإفصاح عنها، فحتى لو كان هناك عدم قبول مجتمعي أو هجمات شارع على مثل هذا الرأي، إلا أن القانون الأميركي يحمي الرأي ويمكنه من الظهور ولو استحياءً.
هذا ويمكننا بوضوح رؤية تمثل هذه الفجوة الفكرية المظلمة في مجتمعاتنا وفي تاريخنا بكل غرورها وأصوليتها وعنصريتها وقدمها السحيق. فرغم كل ما أتى به العلم الحديث من معلومات حولنا كبشر بيولوجيا وذهنيا، إلا أننا لا نزال نتمسك بأفكار ومفاهيم عنصرية ساذجة مناقضة لما أثبته العلم ماديا وفكريا.
أي حضارة بشرية بريئة تماما من هذه الفكرة المغرورة المضحكة: نحن نمتلك الحق وقد أتيناكم بقوة السلاح كي نهديكم إليه وندلكم قسرا عليه؟ كلنا كمجموعات بشرية ندين الآخر بسبب عنفه وتعدياته إلا أننا نطلق أسماء أخرى مختلفة على عنفنا وتعدياتنا: فنحن إصلاحيون، حاضنون للديمقراطية، مقدمون للحضارة، منقذون للبشرية، مرسخون للسلام. عجيب هو أمر البشر، دوما ما يرسخون السلام بالحروب الشعواء.
في تاريخنا العربي أمثلة لا تعد ولا تحصى ولكن ربما أوضحها وأقلها خطرا في الذكر هي الحالة التناقضية التالية: الدخول الإسرائيلي لفلسطين هو احتلال (وهو كذلك) إلا أن الدخول العربي لإسبانيا هو فتوحات؟ التحليل التاريخي والفلسفي الأكثر عمقا غير ممكن هنا، لأسباب واضحة وضوح الشمس في عز الظهيرة الصحراوية، وهذا هو الفرق بيننا وبين الأميركيين. كلنا كبشر متعصبين ننظر للأمر بتناقض مضحك، إلا أن الأميركيين يستطيعون إبراز مصيبتهم الفكرية تلك، أما نحن فبالكاد يمكننا الإشارة إليها وأيادينا على قلوبنا.
إلا أن الواضح أن هذه الفجوة الفكرية المظلمة لا تتوقف حد السياسات الخارجية للمجتمعات، بل تدخل في تركيب أعماقها الداخلية. نحن نأتي بالعمالة المنزلية في منطقة الخليج لننقذهم. نحن نعاملهم أفضل معاملة. نحن نشتري لهم الملابس والحاجيات ونأتي بها إليهم لحمايتهم، فنحن لا نسمح لهم بالخروج في أي إجازة حفاظا عليهم. نحن نقدم لهم طريق الهداية ولو إغراءً بالمال، فنحن في الكويت، وأتوقع لهذا المنحى أمثاله في الدول المجاورة، نقدم مبلغا محترما نسبيا لهذه العمالة الفقيرة التي تتحول عن دينها إلى الإسلام.
نحن “نحتضن” في دول الخليج عديمي الجنسية بيننا، لكننا لا نجنسهم ولو كانوا يعيشون بيننا لأكثر من خمسين سنة، فنقاء الدماء فوق كل شيء، وما تمسكنا بنقاء سلسالنا (لا أدخل أنا فعليا ضمن السلسال النقي بحكم أصولي الفارسية) إلا حفاظا على البشرية بالمحافظة على أرقى أنواعها.
الأمثلة البشرية العالمية والمحلية لا تنتهي، إلا أن مساحة المقال انتهت ومساحة الصراحة صغرت، إن لم تنقبض تماما، ولم يبق الكثير الذي يمكن قوله. ربما لن تتغير أفكارنا البشرية المضحكة حول نقاء دمائنا التي تستوجب المحافظة عليها وعزلها ولا تلك التي هي حول نقاء أهدافنا حين احتلال الآخر سواء عسكريا أو اقتصاديا أو ذهنيا في أي وقت قريب.
ربما نأمل أن تتسع مساحة التعبير قريبا، أن نستطيع أن ننظر للتاريخ تحليلا ونقدا وتعلما، وأن نعترف أننا أخطأنا هناك، لعلنا نصلح هنا، أن نستطيع كل ذلك دون أن ترفع علينا قضايا مساس وحسبة وإهانة تجعلنا نتراجع عن آرائنا صاغرين ثم نقولها في المحاكم مهانين كما قالها غاليليو ذات يوم “لكنها تدور”.