هل نحن شعوب قادرة فعلياً على اتخاذ قراراتها الحياتية وتحمل مسؤولية هذه القرارات؟ في كثير من الأحيان لا يبدو ذلك، فنحن نحتاج لأن نعود للرأي الشرعي في كل مسألة مهمة بلغت مدنيتها أو إنسانيتها لنشكل رأياً، مفوتين حقيقة أن الرأي الشرعي في واقعه رأي إنساني، وجهة نظر بشرية قابلة للخطأ أكثر من الصواب، عرضة لأن تتغير وغالباً في قريب عاجل، بل أحياناً لأن تنقلب تماماً على عقبيها لتتحول من الضد إلى الضد.
حضرت هذه الفكرة بدافع من أكثر من مناسبة مستجدة، لربما منها الحوار «الديني» الذي دار في الكويت عقب قرار السماح للمرأة بالالتحاق بالسلك العسكري، حيث لا الدولة ولا سلكها العسكري ولا تجنيد المرأة مواضيع دينية، إلا أنها كلها خضعت لتحليلات وتقييمات دينية تفصيلية ستتغير بلا شك وفي زمن قياسي لتتحول إلى عكسها، حيث إنه من غير المستبعد أن يصبح تجنيد المرأة فرضاً دينياً قريباً حين تشتد الحاجة أو يسود الاعتياد، فيحول الموضوع من ذاك المهول إلى آخر معتاد مقبول.
لطالما تغيرت المواقف من النقيض إلى النقيض على مر التاريخ العربي الإسلامي، ذلك أن إقحام الفكر الديني في كل شاردة وواردة دنيوية أو علمية يعرض هذا الفكر الديني ليس فقط للتغيير المستمر المشَوِّشْ، لكن كذلك للتشكك المؤلم العميق. فالمنظومة الأخلاقية، التي يجب أن يرتكز عليها الفكر الديني، يفترض ألا تتغير كثيراً أو سريعاً، إلا أن إصرار شعوبنا على إقحام الرأي الديني في كل تفاصيل حياتهم، يرج المنظومة الأخلاقية بارتجاج الآراء البشرية، يغيرها بسرعة تغير أمزجتهم، يناقض أفكارها بتناقض أفكارهم وأرواحهم. لقد سلب المسلمون الكثير من القيمة للفتوى بطلبها في كل مناسبة حتى المنطقية الواضحة منها، كما أنهم قللوا من جدية الرأي الديني باستمرارية تعريضه للتغيير والتناقض. لماذا نخشى تحمل أي مسؤولية لأي قرار في حيواتنا؟ لماذا هذه الرغبة العصابية في تعيين وصاية على أنفسنا؟
ولقد ثارت ثائرة الحوار عندنا في الكويت قبل فترة بسبب محاضرة ألقاها أستاذ التاريخ في جامعة الكويت، الدكتور عبد الهادي العجمي، في واحدة من أرقى المؤسسات الثقافية في الكويت، دار الآثار الإسلامية، حول إشكالية غياب اسم «قريش» من المصادر الماقبل إسلامية، ومن المصادر غير الإسلامية لفترة ما بعد ظهور الإسلام. كانت المحاضرة غاية في الأهمية التاريخية، كما أنها كانت قائمة على أسس بحثية علمية، حيث استعرض من خلالها الدكتور الكثير من المصادر التاريخية المهمة، والعديد من الإثباتات (أو من حقيقة غيابها) التي وقعت يداه عليها، والمتنوع من الآراء البحثية الرصينة لغيره من الباحثين والتي ألقت الضوء على الثغرة التاريخية موضع النقاش، وذلك إبان عملية استشفافه لمعنى وأسباب غياب لفظة قريش من المصادر القديمة.
وكما حزرتم، عوضاً عن مناقشة النقطة التاريخية موضوع البحث والتعامل معه على أنه مادة علمية بحثية، وبدلاً من تشجيع النظر فيها ومحاولة إثبات عكسها لمن خالفها علمياً وتاريخياً أو حتى من ساءه استعراضها دينياً، تحول الحوار إلى حرمة هذا البحث وإلى تكفير صاحبه الذي قدمه. لقد اتخذ التقييم العلمي لبحث رصين، مقدم لنخبة مهتمة وفي مؤسسة ثقافية رفيعة، مقاماً خلفياً للرأي الديني الذي دار حول مدى جواز تقديم هذا البحث، وحول وجود أي حرمة في تقديمه. وماذا عن الأدلة المقدمة؟ وماذا عن المادة البحثية الرصينة؟ لا شيء سوى نبذها بحجة استحالتة وقوعها، دون تبيان كيفية ودلائل هذه الاستحالة. لم يسعَ «حماة» الدين لحمايته ببحث مقابل، ولم يستطع المهتمون تقييم البحث بعيداً عن الرأي الديني فيه كمبدأ أصلاً. وهكذا ضاعت المعلومات التاريخية المهمة والأسئلة المعلقة الخطرة في خنادق الحرام المظلمة، حين عجزت العامة عن التعامل مع المادة البحثية كموضوع علمي تاريخي، محولة إياه إلى قضية دينية أخلاقية تستوجب الإفتاء. المثير في الأمر أن الدكتور صاحب هذا الموضوع البحثي محسوب، في الواقع، على التيار الإسلامي في الكويت.
وفي سياق آخر، كنت أتحدث أمس مع إحدى الصديقات عن عذاباتها في استخراج أوراق ابنها فيما زوجها السابق مختف عن الأنظار، هي غير قادرة على تغيير مدرسته لأن توقيع ولي الأمر، الأب الذكر، هو ما يفعِّل هذه الحركة السحرية. كلما فتحت النساء مواضيع مشابهة لمعاناتهن المتنوعة في مجتمعاتهن الذكورية الخالصة، انقلب الحوار ليأخذ شكلاً دينياً لا علاقة له بالدولة المدنية التي نعيش فيها، ولا بالأوراق التي تنظم حياة أفرادها، ولا بمفاهيم الوصاية المدنية المستحقة لبعض أفرادها. إلا أن شيئاً لا يتغير إلا بشق النفس في قضايا المرأة الحقوقية، وذلك في العالم العربي أجمع، ذلك أن مواضيع المرأة تحديداً لا بد من أن تمر تحت عدسة الرأي الديني، وأن تأخذ صك القبول بفتوى معتمدة، وأن تحوز الرضا العام بإعلان «رجل دين» القبول والمباركة، وحتى يحدث كل ذلك تكون الطيور قد طارت بأرزاقها.
يعاني الناس عموماً في دولنا العربية الإسلامية من هذا التناقض الذي يتجلى في حكم حياتهم المدنية بآراء دينية، حيث تعاني العلوم والفنون والآراء البحثية والعلمية، بخلاف تفاصيل الحياة المدنية اليومية، من التأخير والعرقلة بسبب من هذا التداخل والصراع المستمرين، إلا أن أحداً لا يعاني كما تعاني المرأة، تلك التي كل «إنش» في وجودها المادي وكل تفصيلة في حياتها النفسية والروحانية محكومة برأي ديني، بقراءة قد تكون صحيحة أو خاطئة، بفتوى تفرض قداستها لحين إشعار آخر، فتتوه النساء أو تقف «محلها سر» إلى أن يأتي زمن آخر «برجال» آخرين. نعيش خلطة غريبة عجيبة في دولنا المدنية، كأننا نلتحف معطفاً على أكتافنا ونتخفف بالشورت على سيقاننا، أعلانا شتوي وأسفلنا صيفي، ونحن ضائعون.