يتكرر الكلام العصابي الغريب الذي كأنه خارج من علب معدنية مجوفة لا من بشر ذوي مشاعر وقدرة على التفكر والتدبر، من كثير من الرجال وعدد كاف من النساء حول اكتمال حقوق المرأة مدنياً، وحول تكريم الدين بقراءته الحالية لها وحمايته لحقوقها، وحول محافظة العادات والتقاليد عليها وعلى سلامتها، كلام مفرغ أجوف لا يراعي أبسط القواعد الأخلاقية في التفاعل مع مأساة عمرها من عمر البشرية بمجملها.
في عالم اليوم الذي «اكتملت فيه حقوق النساء، وماذا تريدون أكثر من ذلك؟» ما زالت أرقام اضطهاد وتعذيب وتعنيف النساء في ارتفاع، ما زالت أخبار جرائم «الشرف» الخالية من أي مسحة شرف تملأ صفحات الصحف وأوجه وسائل التواصل الإلكترونية، ما زالت صرخات النساء تتردد واقعياً وإلكترونياً طلباً للغوث والإنقاذ في مواجهة مجتمع يستخدم القراءات الدينية والعادات والتقاليد والقوانين المبنية على كل ذلك ليعذب نساءه ويقمعهن ويروضهن، أدوات متعة وخدمة للرجال، جسدياً ونفسياً.
كلام يخرج من «مثقفين»، ملقى بلا سند، منطوق بلسان ذكر لم ير الدنيا يوماً بعيني أنثى، لم يختبر يوماً من حياتها، ذكر لم يعرف معنى الوصاية المطلقة عليه لآخر يوم في حياته، لم يتذوق مرار أن يكون وجوده وكيانه مصدر شهوة وطمع مستمرين، حتى إنه يمشي منحنياً مقوس الظهر وكأنه يخبئ نفسه داخل نفسه إن وجد في أي مكان عام، كلام أناني يتسرب من أفواه ملصقة بأجساد مخملية الوجود، لم تعرف يوماً معنى القهر الحقيقي ولا الشعور بالذل ولا عبء تحمل مسؤولية الشرف والعِرض هلاميي المعنى لأسرة بأكملها، ذكورها لربما يمعنون الهدم في هذه المفاهيم بأفعالهم المبررة بجنسهم «الحامل لعيبه»، يبذلون كل الجهد في تخريب «شرف» غيرهم لكنهم يموتون دون «شرفهم» هم في تناقض مرضي عصابي غريب. كلام المثقفين الجهلة هذا لم نعد بحاجة أن نسمعه أو نخافه أو نعمل حسابه بعد الآن.
هل يعرف متشدقو جملة «المرأة مكرمة وماذا تريد أكثر من ذلك» طعم أن تكون أسرهم غريبة في بلدانهم، فلا ينعم أبناؤهم بجنسياتهم أو بمزايا مواطنتهم؟ هل استشعروا مشاعر الأَسْر في زواج لا يدخلونه بإرادتهم ولا يخرجون منهم بإرادتهم، ليكون أفضل ما قُنِّن لهم هو أن يفتدوا أنفسهم منه بخلع قد يبيِّعهم كل ما يملكون؟ هل تذوق هؤلاء مرار أن يكونوا كما الأطفال، لا وصاية ولا ولاية لهم، لا حق لهم في اتخاذ أبسط القرارات الصحية تجاه أبنائهم، بل لا مقدرة لهم على اتخاذ القرارات الخاصة في حياتهم أو مجرد استخراج أوراق رسمية تخصهم إلا بوجود وموافقة «آخر» وُلد محظوظاً للجنس الأقوى؟
«حصلتم على حق الترشح والانتخاب، ماذا تردن أكثر من ذلك» هي الجملة المفضلة «للذكور الطبول» الذين يكررون الجملة المطاطية تلك وكأن ألسنتهم جلد دف بليد مشدود تتردد كلماته برنة جوفاء كلما ضربته يد. لهؤلاء «الطبول» نقول، إن نفع القول، إن النساء يردن ما يريده الرجال وما يريده كل البشر بأنواعهم الجندرية المختلفة، حقوق إنسانية وحياة مريحة وحرية يتسع مداها لنعيش الحياة التي نتمناها. يمكننا أن نسأل كذلك، ماذا يريد هؤلاء الرجال وقد اكتمل لهم الحظ وفُتحت لهم «طاقة القدر» على حد قول الأحبة المصريين، كونهم ولدوا للجنس الأقوى اجتماعياً؟ لماذا يبقون يسعون للدخول للبرلمانات، ولتكوين الجمعيات والمؤسسات وللانضمام للحركات المناهضة وصنع الثورات؟ هم يسعون لحياة أفضل، ذلك أن كل هذه الممرات الاجتماعية والسياسية، من برلمانات وجمعيات وجماعات ضغط وحركات ثورية، إنما هي، كما يفترض، طرق لتحقيق الخير للمجتمعات الإنسانية، وسائل للحصول على المزيد من الحقوق، أسلحة لإنصاف المظلوم ولمحاربة القمع. هذه الطرق بحد ذاتها ليست هي الهدف الأخير، هي مجرد ممرات للأهداف الأخيرة، والتي هي في أغلب الأحوال، وكما هي أهداف النساء الأخيرة، بعيدة وصعبة المنال.
«الإسلام كرم المرأة» ليست، كجملة مجردة، ذات تأثير فعال وحقيقي في حياة النساء، هي جملة تحتاج لتفعيل، تحتاج لإيمان بمعناها وتنقيح وإعادة قراءة للنصوص الدينية لتحقيق وعدها. لن يكون هناك تكريم حقيقي للمرأة إلا حين تكتمل قوتها المجتمعية وتتحرر إرادتها الحياتية وتتساوى حقوقها المالية مع نظيرها الرجل، لا إرث أقل ولا سلطة زواج أكثر، مساواة تامة خالصة تجعل من الأنثى قوة إنسانية حقيقية حرة، غير مملوكة لأحد وحياتها غير مرهونة بقواعد تعجيزية تعذيبية. الكلام سهل والهدف قد يكون شبه مستحيل، فهو هدف يحتاج ليس لتغير واحد أو اثنين، هو هدف يتطلب تكاتف التغييرات بمختلف مستوياتها، تغييرات مجتمعية، عاداتية، دينية، فكرية وإنسانية، لتتحد جميعها وتنقذ المرأة من قعر بئر الظلم والقمع والعنف والإيذاء والسيطرة وغياب الإرادة و… ضياع العمر. هذا الهدف شبه المستحيل هو الأكثر حيوية بالنسبة للمرأة، هو هدف يفصل بالنسبة لها بين الحياة والموت، ولذا فهو هدف سيبقى يُشعل نار الاستمرار والمحاولة والنضال مهما أخمدها التهديد والخوف وذلك إلى أن يتشكل حقيقة واقعة. إلى حينها، سنبقى نسمع قرع الطبول الخاوية، بصوتها المزعج ورنتها البليدة، ونتساءل، هل انعدم الحياء؟