شائك هو صراعنا ضد العدو الصهيوني نازي المنحى، ليس بسبب التكتيكات العالمية السياسية الفاجرة فحسب، ولا لأن الغرب يود فقط ترك حارس قذر في المنطقة لا يتورع عن إتيان أي فعل لكي يحمي سريقته هو وحلفاؤه، ولكن كذلك، وبشكل مؤثر، لأننا كعرب لا نفقه فن الصراع الحديث، ولأننا لا نزال نريد أن نستنكر ونشجب من بعيد دون أن يمس ذلك مصالحنا الحقيقية، نريد أن نرفع الشعارات الدينية لنعزز قوانا في محيطاتنا الخاصة دون أن نفكر في أثر ذلك الخطاب على الواقع الفلسطيني الداخلي. نتواصل الأساليب ذاتها التي باد تأثيرها؛ لأنها الأسلم ولأنها الأنفع لنا شخصياً، ثم نتوقع نتائج مختلفة، أي عبط هذا؟
قبل أيام ظهرت دعوة لمقاطعة شركة «بوما» للأحذية والملابس الرياضية لدعمها الفريق الإسرائيلي الرياضي، وبالتالي للطرف الإسرائيلي. أتت ردود الفعل غاية في التدني المبدئي، حين تواردت ردود من مختلف أنحاء العالم العربي تقول تصريحاً وعلناً و«بالمفتشر» هكذا بعد أن ذاب الحياء والخجل وأصبح إشهار المواقف العنصرية المتخاذلة مبعث فخر لا مدعاة إخفاء وصمت، حيث ندين بكل هذا الرخص والهبوط المبدئي والحواري لترامب وحكومته الذين رفعوا سقف العنصرية وحللوا خطابها حتى ما عاد أحد يخجل من إظهارها والتباهي بها، أقول أتت ردود الفعل لترفض المقاطعة، بل ترفض أي مقاطعة لأي جهة، بدءاً من شركة تجارية صغيرة وانتهاء بدولة كبيرة أو عظمى تكون للرافضين مصالح مشتركة معها. هكذا، صلع الجماعة عندنا، ما عاد تهمهم دماء فلسطينية، ولا وعد بلفور، ولا تاريخ مهين بتسليم قطعة من العالم العربي للصهاينة، ولا مستعمرات تأكل أشجار الزيتون كل يوم، بل ولا أقدام تطأ المسجد الأقصى الذي يتغنون بقداسته كل ساعة ويتخذونه سبباً رئيسياً للدفاع عن فلسطين، حتى هذا الموقع المقدس المهم يبدو أنه أصبح باهتاً أمام المصالح والتحالفات الجديدة. رد عليّ كثيرون بعد أن أعلنت المشاركة في المقاطعة بالردود المتخاذلة ذاتها: «وما الفائدة؟ ماذا سنؤثر في قوة ومدخول شركة كبرى مثل شركة بوما؟ هذه دعوات سخيفة، لن نقاطع شركة أو دولة لنا مصالح معها،» لِيُثَبتوا، بكل عنف وجهالة، موقفهم المتخاذل وجهلهم الشديد بأثر الحملات الإلكترونية على الشركات العالمية وغيابهم التام عن مفهوم الضغوطات الفردية التي يمكن أن تتجمع وتتراكم لتسبب خسائر فادحة مؤثرة على المَشاهد الاقتصادية والسياسية. لا نزال هناك، نقف عند حدود الحرب الباردة، لا نفهم قيمة ولا معنى النضال الإعلامي الإلكتروني. اليوم، ليست الأموال الملموسة مثلاً، لكنها الأرقام، ليست الجيوش الفعلية، لكنها الآراء، اليوم هي «الفكرة» المنتشرة إلكترونياً التي تقلب الموازين، فمتى نستوعب ونبدأ نستغل هذه الأداة بذكاء لنساعد الداخل الفلسطيني الذي يحارب كل يوم الحرب الفعلية بالروح والجسد والدم؟
جانب آخر من جوانب إضعاف الحراك الفلسطيني، في رأيي، هو استعمال الوازع الديني كمحفز للدفاع والتحرك، فالقضية الفلسطينية لا يجب أن تقدم على أنها قضية عربية ولا على أنها قضية إسلامية (رغم أنها تخص الفئتين إلى حد كبير أكثر من غيرهما)، هي قضية إنسانية تاريخية بالدرجة الأولى، ويفترض أن يشعر العالم بأكمله بالتهديد من وبخطورة قبول الوضع الفلسطيني الذي يثبّت، في القرن الحادي والعشرين، مفهوم القوي الذي يأكل الضعيف، ويؤيد توجه القوى العالمية الطاغية لبيع أراضي الناس وبيوتهم وأوطانهم، حسب مصالحها وموازينها. يجب أن نقدم القضية على أنها «بروتوتايب» أو نموذج لوضع عنصري عنيف وقح، قبول العالم به والصمت عنه يعرض كل بقعة بشرية أخرى للخطرذاته إذا ما أتت حسبة الدول العظمى ذات يوم لتستفيد من هذه البقعة. يجب أن يشعر العالم بمجمله بالخطورة المبدئية والأخلاقية والإنسانية للوجود الصهيوني في فلسطين وبوقاحة التعامل (أو اللاتعامل في الواقع) الدولي معه، فالقبول به أو تجاهله أو السكوت عن هذا الاحتلال والاستيطان وطرد أصحاب الأرض وسرقة بيوتهم في وضح النهار وقتل وتشريد الكبار والصغار، هي ليست أعراض حالة تخاذل عربية خاصة، هي أعراض هزيمة بشرية شاملة، تخاذل إنساني عام سيأتي يوم ويلف على بقعة أخرى في العالم. هكذا يجب أن نقدم القضية، هي ليست صراعاً إسلامياً يهودياً، إنما هي صراع إنساني ضد الآلة الصهيونية النازية الجبارة وضد عنجهية دول وأقطاب عظمى لن تتورع عن أكل لحومنا جميعاً نيئة من أجل مصالحها.
لكننا لا نتغير، منذ مئة عام ونحن لا نتغير، نكرر الجمل ذاتها، نتخذ المواقف ذاتها، ونتباكى بالسطحية ذاتها، فمتى نأتي إلى القرن الجديد بأدواته الجديدة ونقف وقفة جادة لننقذ لحمنا ودماءنا، ولا أقصد عربياً فقط، ولكن إنسانياً بالأعم والأشمل؟ متى نستعيد حياءنا فنتوقف عن التخاذل الواضح في المواقف، ومتى نتوقف عن سذاجتنا فنتوقف عن التباكي المثير للشفقة ونقدم قضيتنا بكل وضوح وقوة وبكل طريقة حديثة ممكنة دون أن نتوقع ونبشر بالفشل قبل حتى المحاولة؟