عندما تتحقق الإرادة تبدأ الحياة، فالحياة تتجلى في التغيير في حين أن السكون حليف الموت؛ ولنحيا فلابد أن نغير ولنغير فلابد أن «نريد» ولابد أن «نؤمن». تبدو عظمة الإرادة والإيمان في كل لحظات حياتنا وحتى في أصغر أحداثها تفصيلاً، فللعقل، موطن الإرادة والإيمان، تأثير جليل ليس في الإنسان بذاته فقط، بل كذلك في كل ما حوله، لحد التأثير المحسوس في الموجودات الجامدة كما الأفكار التجريدية، لذا يقال دوماً إن توسلك بأولياء الله الصالحين مثلاً يتطلب إيماناً حقيقياً بقدراتهم وإلا لن يتحقق المنى، والسبب أن الإيمان الحقيقي هذا يحرك إرادة الجسد العقلية كما البيولوجية فيحدث تغييراً فيه وحوله.
تلك حال الإرادة والإيمان الساكنين في الجسد المنفرد، فكيف بما نرى اليوم من حراك حاشد للإرادة وتفعيل جمعي للإيمان؟ أفاقت المنطقة العربية على ألم جسدها المسجى طويلاً على سرير الخضوع، وفي لحظة الإدراك هذه توقدت رغبة في الحياة الحقيقية، تحركت الإرادة لتساند الإيمان، وبدأت بوادر الحياة تظهر على ما كان يبدو جسداً فاقد النبض.
لذا لم تعد القضية تستدعي تحليلاً سياسياً دقيقاً أو حواراً «منطقياً»، فالشعب يريد، و»إذا الشعب يوماً أراد» تتوقف الدنيا عند قدمي إرادته، ويتوارى التهديد ويستحي العنف وتطأطئ الأسلحة رؤوسها أمام عظمة الإرادة، فتلك، متى ما ابتُعثت، لا تنهزم ولا ترتعب ولا تموت، ويصبح أصحابها مخلدين، لا يمسهم الموت وإن توقف الجسد، ولايأتيهم العدم وإن تظاهرت أطرافهم بالسكون، والحق أقول إنني أعاني شيئاً من الغيرة لتلك الحياة التي انبثت والدماء التي تجددت في جسد الشعبين المصري والتونسي.
أتوق شوقاً إلى حياة متجددة في أطراف جسدنا الكويتي وأجدها سهلة المنال بما توافر لنا من «أمصال» سياسية حديثة طعمت جسدنا ضد الشمولية والقمع… أجد التجديد سهلاً، وأتساءل: أهي السهولة التي تسبب تقاعسنا؟ أشتاق أن نثور فنرفض جسداً واحداً وإرادة واحدة التعدي على القانون فنحتشد حوله بإصرار كما يحتشد المصريون في «ميدان التحرير» حول حقوقهم، نثور على قسمة ليس لنا فيها يد، فنأبى أن نكون بدواً وحضراً وشيعة وسنة، نخرج ثائرين على إرثنا الثقيل ونصرخ «الشعب يريد إسقاط التمييز»، نقيم في ساحة العلم إلى أن يطيب كل قلب كويتي من طائفيته أو قبليته أو كليهما… ننصب خيامنا أمام مجلس الأمة في ثورة على صور العناء الإنساني، فلا نغادر إلى أن تصبح قضية البدون ماضياً سيئاً نعتذر عنه في كتب تاريخنا، إلى أن تحصل العمالة المسحوقة على حقها الإنساني فتبيض صفحتنا الإنسانية الدولية… نرابط كلنا كنساء أمام مبنى المحكمة فلا نتزحزح حتى تحصل الكويتية على حقوقها في التجنيس والسكن وبقية قيم المواطنة كاملة غير منقوصة، حتى تتغير قوانين الأحوال الشخصية المجحفة، فنرتفع إلى مصاف الدول المتقدمة إنسانياً.
بودي أن أتظاهر ضد أنصاف الحلول، أن أرفع الرايات ضد التأجيل، أن أرشق بالحجارة المساومات والوساطات التي خذلت الجيل الجديد وخيبت آماله وأطفأت أحلامه… أتحرق شوقاً لأن أحرق عجل السيارات في الشوارع كما اشتعلت قلوبنا على مقتل الميموني، ثم أقف قرب لهيبها احتجاجاً على تخاذلي وسكوتي، فأنا، كما كل أهل الكويت، نعلم ما يدور في المخافر، وما يصيب زوار أمن الدولة، ندرك كيف تنتزع الاعترافات وكيف يؤدب العامل الذي يرميه كفيله يومين في المخفر ليلقنه درساً… كلنا ندرك وكلنا نسكت، ولن نمحو هذا الإثم إلا إذا خرجنا ثائرين غاضبين على أنفسنا.
لست أعمم، وإن خليت خربت، ولكنني أريد أن أثور على «خيرٍ» أصبح قصصاً تروى بشوق واستغراب و»شر» أصبح عموم الحالة… أستكنا طويلاً لأمان الاعتياد وفضلنا الخراب الذي نعرفه على الإصلاح الذي يبدو طريقه مجهولاً، ومن يستكن لحكم العادة ويجد الراحة في ظلم معتاد «عم فأصبح عدلاً» فحياته تحصيل حاصل، بل هو بسكون ضميره وتوقف إرادته عن التغيير لا يحيا أساساً، ومن هذا الذي يريد أن يتحول من إنسان تعرٍفه إرادته إلى جثة تحركها إرادات الآخرين؟
لدينا من الأساس الديمقراطي الحر ما يعد ببنيان مرصوص، وتلك حقيقة في حد ذاتها يجب أن تثير نفوسنا غضباًَ ونحن نراها تضيع هباءً وسط مصالح ومطامع لا تبصر أبعد من يومها الحالي… فقط لو نثور، نثور على رتابة الأيام واستكانة النفوس للاعتياد وقبولها بالنواقص كحقائق حياتية لا يمكن تفاديها… فقط لو نحلم بالمثالية التي علمونا ألا نتطلع إليها لاستحالتها، لو نطلب كمالا أفهمونا أن ليس له مكان على الأرض، سنرى عندها المعجزة… وستبدأ الحياة.
* «الشعب يريد إسقاط النظام» هو أحد الشعارات الرئيسة التي رددها المصريون في ثورتهم الحالية.