«الشعب الملطشة» *

ما هذا البلد؟ وما الذي يحدث فيه؟ لقد أصبحنا “ملطشة” لأقطاب وحكومات وتجار ومعارضة، للمتحررين منهم والمتطرفين، للأغنياء منهم والمعتدلين، للأذكياء منهم وغير الأذكياء. “خضيتونا حتى طلعت زبدتنا، بهدلتونا، دعستونا” بالأقدام في صراعكم المريض الفاسد، لو كان الوضع غير الوضع لقلنا “فخّار يكسر بعضه”، ولكن الواقع يقول إن فخاركم يتناثر في وجوهنا في حين أنتم تتحاذفون قطعه الحادة السميكة.  ها هو الصيف بحرارته الملتهبة يُقبل، وها هو الصراع السنوي يبدأ، نحتاج لتأمين دفعات مدارس الأولاد، نفكر ونزن ونعيد ترتيب الميزانية، علّها ترضى وتقبل أن تشمل تصليح هذه السيارة، والتخلص من هذا الدَّين، والإيفاء بمستلزمات المدارس، لتخرج الغيلان من جحورها، تتراشق الأرقام وتتبادل الاتهامات في لعبة لربما هي الأقذر والأخطر في تاريخ الكويت، والحارق أنه في الغالب لن يكون هناك “حياء” لمن تنادي، ولن تكون هناك عاقبة لمن لا حياء لهم. لن يكون هناك تحقيق، ولن يكون هناك تدقيق، لن تكون هناك مراجعة لادعاءات مسلم البراك البالغة الخطورة، ولن يكون هناك تأكد من تفنيدات مرزوق الغانم التي لا تقل خطورة كذلك. كل ما حدث ويحدث سيكون مكانه ساحات الدواوين وألسنة الناس، أما القانون فرحمة الله عليه وعلينا.

لطالما صرخت وآخرين غيري بضرورة تعبيد طريق ثالث، طريق لم تفسده الحكومة ولم تلوثه المعارضه، طريق يحفره الشباب، على ذوقهم، بأسلوبهم، يوجهونه حيث يريدون بدون حسابات وتصفيات واصطفافات، لطالما قلنا، لا تعبدوا الرموز، لا تثقوا بمن وقر في صف الحكومة سابقاً وانقلب عليها عندما تغيرت المعادلة وتغير اتجاه الريح، ولطالما حذرنا لا تندفعوا إلى صف الحكومة المفسدة كرد فعل تجاه المعارضة الفاسدة. لسنا مجبرين على اختيار أفضل الأسوأ ولا أهون الأمرين، يمكننا أن نصنع طريقا مختلفا، ليس فيه رموز ميلودرامية ولا قيادات فاسدة ولا أصحاب قرار مهملون متهاونون، طريق ليس فيه تزوير ولا تدليس ولا سراق ولا تحويلات ولا إيداعات، طريق ليس فيه تشويه ولا شتم ولا طعن في سمعة ولا قذف في شرف، طريق ليس فيه رموز تعبد ولا قيادات تتوعد، طريق يصنعه الشباب، يقودون من خلاله ولا يقادون. هذا هو الواجب الأخلاقي على شباب المقاطعة اليوم، هؤلاء الذين لم يستطيعوا أن يستمروا في التحرك من خلال النسق الحكومي الفاسد، ولم يتمكنوا من الانضمام إلى منظومة المعارضة الخربة، هؤلاء الذين لم تكن لهم جماعة تضمهم، يحتاجون اليوم أن يخلقوا جماعتهم ويعبدوا لها الطريق. عندما أتذكر، ليس معاناتنا العادية لتأمين مصاريفنا وسداد إيجاراتنا وأقساط سياراتنا وتوفير شيء ما لمستقبل أولادنا، ولكن عندما أتذكر البعض من أهل البلد، من جلدة أرضها، يحيون دون ورقة ثبوتية، ودون لقمة مضمونة وتعليم مستمر يقي الصغار شر الشارع وطبابة متوافرة تؤمن الحياة، عندما أتذكر كيف يقطن البعض في إسطبلات الخيول، حيث الفقر والمرض وضنك العيش، وحيث يؤمِّنون عيشهم أحياناً بالبحث في صناديق الزبالة عن خبز يصنعون منه علفاً يبيعونه، عندما أتذكر كل ذلك، ثم أضعه أمام فساد الملايين الذي يرتع في أروقة الدولة، أمام الأموال السائبة التي اصطف “الكبار” عبيداً لها، ملايين تحركهم كحطب الدامة، تحولهم من أحباب إلى معارضة ومن معارضة إلى أحباب، عندما أتذكر كل تلك المعاناة أمام كل هذه الحرمنة والتآمر والجشع المريض، أفقد الأمل في الدنيا، في الإنسان، في الخير الذي طالما آمنت بفطريته في النفوس. كل هذا الشر، كل هذا الخراب ونحن ننظر ذات يمنة وذات يسرة، هذا يضرب ذاك، وذاك يبصق في وجه هذا، وهذا يكشف وذاك يزور، وهذا يصرخ وذاك يبرر، أي الأوراق صحيحة وأيها مزورة؟ من الشريف ومن الخبيث؟ أين القانون من كل ما يحدث؟ أين القانون؟  طريق جديد يا شباب، طريق جديد، فالإصلاح النظيف ممكن، والعمل السياسي الشريف محتمل، احزموا أمركم وغادروا جو الفساد هذا قبل أن يبلعكم في داخله ويقضي على طهارة نفوسكم… وابدؤوا من جديد.

* ورد تعبير “المواطن الملطشة” في  المسرحية السياسية المصرية “كعبلون” لسعيد صالح.