أشاهد هذه الأيام، في محاولة للهروب من مرير الحقائق المحيطة، فيديوهات يوتيوبية من برامج مسابقات الغناء والمهارات المختلفة الغربية، حيث تظهر هذه المسابقات غرابة جنسنا البشري وسخفه وعمقه وروعته كلها في آن. وكما يخبرني زوجي دائماً، فقد أفقدتني دراستي النقدية ومنذ زمن طويل قدرتي على الاستمتاع الحيادي بالأعمال الفنية الأدبية، على ترك المجال لروحي للتخفف من أحمالها لتهنأ ببهجة صافية لذيذة دون الحاجة لضرب هذه الأعمال ضرباً مبرحاً تحليلاً لمعانيها ونبشاً لمقاصدها وما وراء مقاصدها. للأسف، فقدتُ هذه القدرة الفطرية منذ سنوات عدة، وبت أحد عوامل تخريب بساطة «المناسبة» الفنية وانسيابية الاستمتاع بها، بل إنني أضحيت عبئاً معنوياً للأعمال التي أطلع عليها.
أحاول كثيراً أن أغير هذه العادة، لكن من منا له إرادة تحكم تحركات وقفزات عقله؟ وهكذا، عوضاً عن أن أسمح لنفسي بالاستمتاع بهذا التنوع المهاراتي الإبداعي الهائل بين البشر، بهذا العمق الذي يتجلى في بعض الاستعراضات الجسدية والذهنية، أو بهذا السخف والسطحية اللذين يُظهران جانباً مهماً ولربما مخيفاً، وأحياناً حزيناً، من النفس البشرية، فقد نصبت نفسي حَكَماً إضافياً في هذه البرامج، لا أُقيِّم مواضيعها ومهاراتها فقط، وإنما أُقيِّم وأدرس كذلك ردود أفعال محكميها وجمهورها.
شيء ما خلاب وساحر الأثر في الموسيقى والغناء والرقص، هذه الأنشطة الإبداعية التي تبدو على درجة كبيرة من الفطرية والتي نناصبها عداء غير مفهوم في مجتمعاتنا. في برامج المسابقات الغربية تلك، تتبدى المساحة شاسعة وهائلة للأفراد لتقديم إبداعات ليس فقط أعمالهم لكن شخصياتهم وأفكارهم كذلك. ليس هناك من سخيف لا يستحق، فأحياناً حتى أبسط بل وما قد يبدو أسخف الأداءات، يجد له مكاناً وقيمة في هذه المسابقات، وذلك حين يتفاعل محكمو البرنامج وجمهوره مع بساطة المشارك أو مع سخف رسالته أو مع شاسع اختلافه أو مع غرابة تقديمه، ليعطوا جميعاً بعداً وقيمة غير ظاهرين من أول وهلة لهذا العمل. إن التفاعل الجمعي من الجمهور دائماً تقريباً ما يضيف للعمل المقدم، يضفي معنىً وبعداً وبهجة تحول العمل السطحي إلى عميق، والعمل الفقير إلى غني القيمة الإبداعية.
كل ذلك ما كان ليتحقق، ما كنا لنتحصل على هذه الدرجة من التنوع في الأعمال المقدمة وفي طريقة ودرجات تقييمها لولا الحريات المكفولة في ذلك الجزء المختلف من العالم. إبان تنقلي من فيديو لآخر، بقيت تلح عليّ فكرتان أساسيتان: أولاهما، طبيعية وأريحية الناس مشارَكَة في الغناء والرقص، حيث كثيراً ما يتفاعل المسرح بأكمله مع المتسابقين، ليقفز المعظم من كراسيهم ويتحرك المسرح بمجمله راقصاً ومشاركاً، ولتصبح المجموعة البشرية الكبيرة هذه بمجملها وكأنها كينونة واحدة موحدة من البهجة والسرور والاستمتاع. شيء ما مؤثر جداً في هذه البهجة الجمعية، في هذا الاستمتاع الائتلافي بالموسيقى والرقص، وكأن الهموم كلها تذوب في هذه اللحظات، لتتحول هذه العينة من البشر إلى كائنات مسالمة محبة مرحة، وَحَّدتها فطرتها البشرية المجبولة على حب الحياة والحركة والتعبير لتصبح «خلية بشر» دافئة مسالمة لا مكان فيها للحزن أو الكراهية أو العنف.
بكل تأكيد، لا يمكن أن تتحقق هذه الفكرة الأولى سوى بالفكرة الثانية المتمثلة في الحرية، والتي هي وحدها القادرة على تفعيل هذه التجربة الإنسانية الرائعة. فلولا الحرية المكفولة في هذه البقاع من الأرض، لما تجرأ الأفراد على استعراض بعض أغرب وأحياناً أسخف وأحايين أكثر إبداعاتهم اختلافاً وتطرفاً، ولما تجرأ الجمهور على التفاعل مع هذه الإبداعات والتعبير عن حبها وقبولها. شيء ما يغذي النفس والروح في الضحكات والتفاعلات الفطرية، في ترك القلب على هواه للحظات ليتجاوب والبساطة والسخافة ويضحك معها وعليها. في هذه التجارب التي تعطي -ولو للحظات- قيمة لما لا قيمة له، عمق إنساني مهم، وترابط نفسي ووجداني مهم وصحي بين الأفراد، فرصة للتعبير عن أنفسهم في أبسط حالاتها والاستمتاع بالحالة مهما بلغت سطحيتها. هذه البساطة تجدد الروح وتجمع البشر وتبرز، إبان الاستمتاع بها، العميق المستحق عن حق. كل ذلك لا يتسنى سوى بالحرية، هذه التي تسمح لأحدهم أن يأتي استعراضاً متطرفاً على المسرح أو تلك التي تسمح للرجال والنساء أن يقفزوا على كراسيهم وينسوا حواجز الجنس والطبقة والاعتبارات الاجتماعية والدينية بينهم، فيشبكوا الأيادي ويوحدوا الأصوات في حالة استمتاعية نفسية بحتة.
أتحسر علينا كثيراً، ليست لدينا نقطة الانطلاق الحقيقية، الحرية، لنحقق بها شيئاً من هذا الاستمتاع البريء البسيط. حياتنا قائمة على التعقيد الساذج والجدية المزيفة لنحافظ بهما على مظهر جاد تنكري، يخفي خلفه الكثير من الشوق للحياة والفهم الحقيقي لها. أنا شخصياً مثال على ذلك، حين فقدت قدرتي على الاستمتاع البسيط وتماديت في فرض كل جدية على كل تقييم لكل عمل أطلع عليه، غير مقدرة لأهمية ونفعية الضحك الصافي والمَرَح السخيف والاستمتاع السطحي.
كل هذه الجدية والمحَافظة والورع وما حققنا شيئاً، لنجرب بعض السطحية والسخف والطبيعية، لعلها تجدي نفعاً وتغير حالاً إلى حال.