كتبت قبل أيام، معلقة على تصريح أبو تريكة برفضه بث مباريات الدوري الإنكليزي بسبب لبسهم لشارات تساند الحرية الجندرية، لتأتي التعليقات على ما كتبت مؤكدة فوضى وضبابية الوعي العربي فيما يتعلق بمفهوم حرية التعبير وكيفية التعايش مع الرأي الآخر دون أن تقمعه ودون أن تتفق معه. هذا الخيط الرفيع الذي تقف عليه الإنسانية المتحضرة، خيط يحدد منطقة محايدة تماماً بين رأي تختلف معه وفي الوقت ذاته تحترم حرية وجوده، هو غير مرئي للأمة العربية. فالأمة التي ترى نفسها أفضل الأمم ومالكة للحق المطلق وصاحبة منظومة الأخلاق التامة النهائية، لن تستطيع أبداً أن تقف على هذا الخيط الرفيع.
يفترض أن الموضوع بسيط جداً. يلبس لاعبو الدوري الإنكليزي شارات على الأذرع أو يربطونها في أحذيتهم تأييداً للحرية الجندرية. أبو تريكة، بورعه وبخوفه، كما صرح في أحد البرامج، على أخلاق ابنته التي لم يستطع أن يشرح لها معنى هذه الشارات، يطالب القنوات التلفزيونية، أتصور المصرية، بعدم بث هذه المباريات. أنا علقت بأن تصريحه بأكمله، عوضاً عن أنه لا يحترم الحريات الشخصية، فهو متعال وكاره. يبقى حقه مكفول في إبداء أي رأي وإن كان متعالياً أخلاقياً وكارهاً إنسانياً، إلا أن هذا الحق لا يعفيه من الاختلاف والنقد. غير أن فكرة النقد والنقد المقابل غريبة جداً في عالمنا العربي، ذلك أن هناك منظومة أخلاقية واحدة، وصف مؤمنين أوحد، وطريق حق أوحد، كلنا نقف عليه متقدمين للأمام «بمارش عسكري» محكوم الإيقاع. وعليه، فالنقد عندنا هو سكة «إللى يروح ما يرجعش» نقد يتقدم باتجاه واحد محارباً كل ما يخالف منظومتنا الأخلاقية التي تعلو كل منظومات البشر الأخرى.
تصريح أبو تريكة لا يَحترم الحريات الشخصية لأنه يحاكم اختيارات حياتية لا تمسه في شيء. ليس عليه أن يوافق عليها، وليس عليه حتى أن يحترمها، لكنه بالتأكيد ليس له أن يساهم في حركة قمعها. له رأي يخالف الحرية الجندرية، لا بأس، له رأي كاره لكل المختلفين جندرياً، كذلك لا بأس، يعتقدهم جميعاً آثمين ومصيرهم النار وبئس المصير، هذا رأيه وحقه، لكن أن يفرض رأيه هذا عزلاً لحتى من يساند الحرية الجندرية لا ممارساً لها أصلاً، وأن يطالب بمنع بث مباريات لا يلعب فيها المختلفون جندرياً لكن المساندين للاختلاف، فهذا تعدّ ما بعده تعدّ على الحريات العامة وحق الاختلاف، وهنا يأتي دور مساندي الحريات بغض النظر عن موقفهم من موضوع التعددية الجندرية. بأي منطق يطالب أبو تريكة بمنع القنوات الرياضية من بث مباريات تستفيد منها هذه القنوات مالياً وإعلامياً؟ بأي منطق يطالب بفرض منع مشاهدة مباريات على شعب بأكمله، منهم من قد يساند الحريات، ومنهم من، حتى وهو يختلف مع منطق الحرية الجندرية، قادر على توجيه أبنائه وتربيتهم على منظومته الأخلاقية دون رقابة إعلامية حكومية؟ بأي صفة يطالب السيد أبو تريكة بالحجر على البث الإعلامي وعلى شعب بأكمله؟ وكيف أصبحت منظومته الأخلاقية هي العليا والمطلقة؟ هل من حقه إبداء رأيه القمعي؟ نعم حقه، هل نسكت عليه؟ لا وألف لا.
ولرأي أبو تريكة حس متعال من المذهل أنه وجيش حماة الأخلاق، غير قادرين على تمييزه، الذي يتمثل في اعتبار أن منظومته الأخلاقية هي العليا وهي تمثل الحقيقة المطلقة، في حين أنه مجرد إنسان من سبعة مليار إنسان على سطح هذه الأرض، لكل منهم رأيه ومنظومته الأخلاقية و»حقائقه» التي لا يساوم عليها. فإذا ما طالب كل منا بمنع البث الإعلامي لمفهوم متناقض ومفاهيمنا أو بمنع نشر الرأي المخالف لآرائنا السائدة بل وحتى منع نشر الرأي المساند لهذا الرأي المخالف، فأي شيء من فتافيت الحرية واحترام الرأي الآخر بقي لنا؟
لا توافق، لا تتقبل، ولك حتى ألا تحترم. يمكنك أن تشتم وتلعن وترمي مخالفيك بنبوءة سوء المنقلب والمصير. كل هذا حقك، الذي يوازيه ويعادله حق الآخر في أن يحاكم منظومتك. ما هو ليس حق له ولا لك هو أن يقمع بعضكما بعضاً، وتحرضا على كتم أصوات بعضكما البعض، وتطالبا الحكومة بالتدخل لمنع هذا الرأي أو ذاك تحججاً ساذجاً بمحاولة حماية أخلاقيات الأبناء. أخلاق أبنائك مسؤوليتك، وهي تتجلى في نصحك وتوجيهك الدائمين وحمايتك لهم، أي أن تتحمل مسؤوليتك كاملة تجاههم، لا أن تعتمد على ماما حكومة وبابا قانون في فرض سيطرة أخلاقية هي ليست من شأنهما ولا يمكن توحيد منحاها تجاه الجميع. ازرع ما تريد من المحبات أو الكراهيات في صدر ابنك أو ابنتك، لكنك لن تستطيع أن تسكت العالم كله حجباً لحقيقة وجود آراء أخرى عن أبنائك. مصيرهم سيكتشفون أن هناك آراء واختيارات أخرى، لذا فالأسلم أن تحصنهم بالمعرفة وحسن الاختيار، لا بالمنع والقمع والاخفاء. مجرد نصيحة، ما أخذت بها يا أبو تريكة ويا من تشبهون أبو تريكة، الله معكم، العالم لن يقف عندكم.
*مع الإعتذار من فاتن حمامة ومحمود ياسين بطلي فيلم يحمل ذات العنوان ولربما يتعامل مع جانب من المعنى.