يصعب عليّ تصور تحول الكويت إلى مركز عالمي دون الحاجة إلى انفتاح قوي على العالم ودون بعض القبول بالمختلف عن طبيعة المجتمع، ولكن أينما يصل بنا التشريع الرامي إلى الانفتاح أو المناهض له، فإنه يجب أن يصل بالنقاش المدني المنطقي.
استكمالاً لما ورد من مواضيع في مقابلة “مثير للجدل” كان هناك سؤال حول مقال كنت قد علقت فيه على أحداث رقابية كانت جارية وقتها، حيث قلت إن التوجه لمنع ترجمة كلمات مثل “قبلة” أو “كحول” في السينما أو التلفزيون المحليين يتهدد قدرتنا على الانفتاح على الآخر، ويجعل فكرة تحويل الكويت إلى مركز مالي عالمي عصية على الخيال. كان رأيي أن فكرة تحويل بلد أو مدينة ما إلى مركز عالمي تتطلب درجة من الانفتاح والليونة وتقبل الآخر تعاملاً وتفاعلاً مع بعض عاداته وأساليب حياته، فإذا كانت مجرد كلمات لا تدلل أو تدفع إلى ارتكاب فعل لا أخلاقي حسب مقاييس مجتمعنا المحافظ ستشكل مشكلة، فكيف سنستطيع التعامل مع البشر المختلفين بمقاييسهم وقيمهم الغريبة عنا؟
جر الحديث أعلاه إلى مناقشة موضوع السماح أو المنع للكحول بدخول الكويت على اعتباره موضوعاً مؤثراً على العالمية المنشودة. يفترض أن ينطلق الحكم في هذا الموضوع، في رأيي، وكما مع كل المواضيع الأخرى محل الخلاف في الدولة المدنية، من منطلقات مدنية قانونية بحتة. بلا شك التشريع في أي دولة يعتمد على أسس عدة منها طبيعة المجتمع، وعادات وتقاليد سكانه وبالطبع أديانهم وحتى توجهاتهم في تطبيق هذه الأديان، إلا أن المشرع في الدولة المدنية يفترض، حتى وهو يأخذ كل ما ورد بعين الاعتبار، أن يتفادى التشريع المباشر على أساس الأديان والعادات والتقاليد، بل يفترض فيه التزام الحياد قدر الإمكان تجاه هذه المقاييس حتى لا يتم قمع فئة لمصلحة فئة أو إعلاء دين على حساب آخر. أتذكر كيف شكلت هذه الجزئية مشكلة مثلاً إبان الحديث حول فصل الدراسة المشتركة للمراحل ما قبل الجامعية، والذي دار في الكويت قبل سنوات، حيث بنيت حجة الفصل بكاملها في الخطاب الديني أو المحافظ الذي أتى على لسان النواب وفي بيانات الجمعيات الدينية على الجانب الأخلاقي (من يستطيع نسيان بيان جمعية الإصلاح الشهير بهذا الصدد؟)، حيث لم تكن هناك حجة أكاديمية أو علمية واحدة واضحة في النصوص المكتوبة أو الشفهية المقدمة وقتها لتعديل قانون تعليمي في دولة مدنية. هذا الغياب للأسباب العلمية الرصينة، التي يفترض أنها تبتعد عن الأحكام والتوجهات الدينية والأخلاقية الشخصية في حوار يفترض أنه برلماني قانوني مدني، أدخل البلد في أزمة وأشعر الكثيرين بأنهم مستهدفون باتهامات شنيعة فقط لاختلاف توجهاتهم واختياراتهم وقيمهم الأخلاقية. وكذا هي الحال دائماً عندنا في الكويت عند التحاور حول التشريع لأي موضوع يحمل بعداً مغايراً للمعتاد أو يكون ذا زاوية أخلاقية أو يكون له منظور ديني، حيث نجد أن الحوار يتحول إلى تراشق أخلاقي عوضاً عن أن يكون جدلاً منطقياً علمياً واضحاً يليق بالدولة المدنية التي هي دولتنا.
في رأيي تقدم الولايات المتحدة مثالاً مجتمعيا قريباً لحد ما من مجتمعنا، مواطنون محافظون بشكل كبير ومجتمع على درجة مرتفعة من التدين (على الرغم من الظاهر المختلف في إعلامهم)، مقابل دولة تجتهد في إظهار مدنية تحررية وحياد تشريعي أمام العالم أجمع. من الملاحظ أن هناك اختلافا تشريعيا بين الولايات الأميركية ذاتها، مثلاً في تحديد العمر المسموح به لتناول الكحول أو إباحة الماريغوانا أو تشريع حكم الإعدام. ينبع هذا الاختلاف من تقييم مجتمعي لطبيعة كل ولاية ومدى تقبلها للقانون المقر، ففي النهاية المشرع الفذ هو ذاك الذي يشرع وهو أولاً يعلم إمكانية تنفيذ تشريعه، وثانياً إمكانية حماية المُشَرع للناس جسدياً ومعنوياً. مربط الفرس هو أنه وعلى الرغم من تدين الدولة الأميركية، فإنها تحاول جادة، على الأقل لما قبل الزمن الترامبي، الابتعاد عن التفسير الديني أو الأخلاقي للتشريع باعتبار الدين والأخلاق أموراً خاصة تلتزم بمسؤوليتها العائلة لا الدولة.
وفي حين أنني أميل دوماً لتوسعة مساحة الحرية تشريعياً لا تضييقها، إلا أنني سأكون مستمعة جيدة وربما متحمسة لكل الحجج المنطقية المدنية العلمية لمنع الكحول في الكويت، وهناك الكثير مما يمكن البناء عليه علمياً ونفسياً وعضوياً ومجتمعياً في جانب المنع، لكن يبقى أن المنطق الذي يجب بناء المنع أو الإباحة عليه يجب ألا يكون شخصياً أو دينياً أو أخلاقياً خالصاً. شخصياً مثلاً لا أحب مساحيق التجميل كثيراً وكثيراً ما تستفزني رؤية المبالغة في استخدامها، حيث أحاول قدر الإمكان لفت نظر صغيراتي إلى البعد السلبي لاستخدامها صحياً وفكرياً، إلا أنه لم يخطر في بالي ذات يوم أن أطالب بقانون يحد أو يمنع مساحيق التجميل، رغم توافر الحجة الدينية والأخلاقية التي يسهل استخدامها للي ذراع الحوار، ليس هذا من حقي وليس هو ديدن الحوار المفترض في الدولة المدنية. وتبقى مسؤولية إيصال الفكرة الأخلاقية حول الموضوع لصغيراتي مسؤوليتي أنا لا مسؤولية الحكومة ولا القانون.
يصعب عليّ تصور تحول الكويت إلى مركز عالمي دون الحاجة إلى انفتاح قوي على العالم ودون بعض القبول بالمختلف عن طبيعة المجتمع، ولكن أينما يصل بنا التشريع الرامي إلى الانفتاح أو المناهض له، فإنه يجب أن يصل بالنقاش المدني المنطقي، نعم محملاً بطبيعة المجتمع وعاداته وأديانه وتركيباته المختلفة، ولكن ليس بناءً كاملاً عليها ولا اعتماداً مطلقاً على دين أو قاعدة أخلاقية لأغلبية فيها، فإن حدث ذلك، ساعتها لن تكون تلك دولة مدنية، ستكون دولة دينية، أو تكون خلطة غريبة متوترة طول الوقت، كما هي خلطتنا الكويتية.