الحياة…مذكر

واقع الحال أن الأنظمة المسيطرة على حياتنا كلها أنظمة أبوية ذكورية، يبدو ذلك واضحاً من أساليبها، أهدافها، ونتائج توجهاتها. نحن في عالم تفوح منه رائحة التستوستيرون، تقوده نزعات الذكر الألفا، وتسيطر عليه السلوكيات البدائية للتصارع والاستعراض الجسديين، الإغارة الحربية من أجل تأمين الحياة، والتنازع لامتلاك “رفيق” وظيفته الخدمة وتأمين الاستمرارية وبالتالي تأمين النوع.

السوق ذكوري بحت، تقوده أساليب شرسة، وحريات عشوائية عنيفة يأكل من خلالها القوي الضعيف. أقوى المؤسسات الاقتصادية هي مؤسسات هرمية أبوية، أمثلتها منتشرة حول العالم وأوضحها في شرق آسيا، الصين واليابان وتايلاند وتايوان أمثلة، وفي المنطقة العربية، منطقة الخليج بأُسرها الثرية الشهيرة أمثلة، حيث تمتلك كل أسرة من تلك جزء من أوكسجين السوق، تتوارثه أجيال بعد أجيال من ذات الأسرة الممتدة للرجال لا للإناث طبعأً، تاركة الجو مكتوماً لبقية “صغار” السوق الذين يبقون بالكاد قادرين على تنفس جوه الذي تتركه هذه الأسر عادة مليئ بثاني أكسيد الكربون. لو كان السوق نسائي، هل كان هذا ليكون شكله أو نمطه؟

الحكم وأنظمته ذكوريين خالصين، تسيره فكره الغاية تبرر الوسيلة وتملأ تاريخه، عبر العالم أجمع، قصص دماء لآباء يقتلون أبناءهم وأبناء يقتلون آبائهم وإخوة ينحرون إخوتهم من أجل الحكم. الحكم مرادف للقوة والسيطرة والعنف والحزم بل وسفك الدماء، والتي هي مفاهيم تبقى مسيطرة حتى في أعتى الثقافات ديموقراطية وانفتاحاً وإنسانية. تتشكل الأسر الحاكمة عبر خطوط الدم الذكورية، وتحكمها قواعد صارمة لا يمكن أن تفكر في أن تصنعها امرأة، ذلك أنها غالباً ما تنطوي على صفقات تُدفع فيها النساء ثمناً للتحالفات والترتيبات السياسية، صفقات تبادلية صلدة جاحدة بالروح الإنسانية، لا تأخذ بعين الاعتبار سوى المصلحة والاستفادة والاستمرارية النسلية لعائلة مجدت نفسها وخلقت أسطورة عراقتها ونقاء دمها، حيث لا يوجد معنى للعراقة وحيث يستحيل، في أي مجتمع إنساني، الإبقاء على “نقاء” الدم دون أن يمرض ويتهالك ويموت كل هؤلاء “الأنقياء” وفي زمن قصير. لو كانت السياسة نسائية، هل كان هذا ليكون شكلها أو نمطها؟

المؤسسات الدينية ذكورية تامة، تشكلها هرمية يعتليها الرجل، وتبنى قواعدها على أساس هذا الفرق الجندري الذي هو ليس فقط واضح تماماً بل مطلوب ومقصود وحيوي لاستمرار المؤسسة الذكورية تلك. النساء ينجبن الأنبياء لكنهن لا يُذكرن في التاريخ كنبيات.

النساء يساندن الرجال بالخفاء لكنهن لا يظهرن كثيراً في الحيز الاجتماعي الديني ولا يؤثرن فيه بشكل مباشر. النساء تابعات اجتماعياً (وبكل تأكيد سياسياً واقتصادياً)، فهن لا يملكن حق تقرير المصير بشكل كامل، لا يملكن حق تشكيل مؤسسة الزواج، لا دخولاً لها ولا خروجاً منها، لا يعطين أبنائهن إسماَ ولا يورثونهم ديناً (ربما عدى اليهودية وبعض الأديان الشرق آسيوية) ولا يملكن عليهم أي وصاية كون الأبناء “ملكية” للأب. النساء تابعات دينياً، فهن يُؤمرن ولا يَأمرن، يُوَجَّهْنَ دينياً ولا يُوَجِّهن، يُؤمَمْنَ في الصلاة ولا يَأمَمْن، يُفَسَّر لهن النص الذي يُحَرَّم عليهن حتى لمسه في فترات من حياتهن ولا يُفَسِّرن، ولو كن يشاركن في تفسير النص أو لهن أي يد في فهمه وتشخيص معناه هل كانت آية “وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ” لتُفهم على أنها مدعاة إباحة تعديد الزواج للرجال؟

النساء لا يملكن القوة الاقتصادية المتمثلة في إرث متساو، في فرص عمل متاحة في كافة المجالات والتي غالباً ما تسد أبوابها مفاهيم العيب والحرام، في فرص الخروج من الحيز المنزلي، المليئة بالآثام والذنوب بداية من خطر وقوعها في “إثم جسدي” وليس انتهاءاَ بمجرد شم رائحتها، إلى الحيز العام لتأمين هذه القوة الاقتصادية. النساء لا يملكن ذات القيمة الإنسانية، فالرجل في القراءات الإسلامية يعادل اثنتين في الشهادة واثنتين في الإرث وأربعة في الزواج الرسمي وعدد لا محدود في الزواجات غير الرسمية. النساء لا يملكن ذات الآمال الأخروية، فوَعْدهن أزواجهن الدنيويين في الجنة، في حين يوعد الرجل بعدد لا ينتهي من حور العين العذراوات. حقيقة، أي فكرة يمكن لها أن تعبر عن تلك الذكورية الخالصة الشهوانية العنيفة في فهم الفلسفة الدينية من تلك التي تقول بلا نهائية عدد الفاتنات المتوافرات لمتعة الرجل وأبدية وتجدد عذارتهن؟

النساء في المؤسسات الدينية على طرفي ثنائي متناقض، فهن ملائكة أو شيطانات، أمهات أو مومسات، المساحة بين هاذين خالية تماماً، فالمرأة لا يمكنها أن تكون في الفهم الديني سوى على نهاية أحد هذين التقيميين. لو كانت المؤسسات الدينية نسائية، هل كان هذا ليكون شكلها أو نمطها؟

لو كانت الأسر أمومية هل كانت لتكون هرمية بهذا الشكل وهل كانت لتوزع مواقع القوى فيها بهذه الصورة؟ لو كانت المدارس أنثوية الفكر هل كانت الأدراج ستصطف خلف بعضها البعض في صفوفها بهذا الشكل العسكري البارد؟ لو كانت الأناشيد الوطنية نسائية الحس هل كانت لتنطوي على معاني الحرب والعنف والإعلاء لأفراد محددين والانغلاق على بقعة جغرافية محددة؟ لو كانت صناعة الملابس وأدوات التجميل مؤنثة المنطلقات هل كانت لتكون مؤلمة موجعة لجسد المرأة وفي ذات الوقت تسويقية له بهذه الصورة الفجة؟ أي امرأة في عقلها الواع تخلق سوقاً لمواد كيميائية تلطخ بها وجهها بشكل يومي، تأكل بشرتها بكيماوياتها وتنهكها نفسياً وروحياً؟ أي امرأة باختيارها الحر تصنع ملابس كل هدفها فتنة الرجل مهما بلغ إيلام هذه الملابس أو إزعاجها، تخترع شعراً مستعاراً تلصقه حملاً مؤلماً بفروة رأسها، أو تفكر في وشم حارق تضعه فوق عينيها أو لزوجة تحقن بها شفتيها؟ أي مجنونة باختيارها ستجني بهذه الصورة على نفسها وبني جنسها؟

هذا عالم لا يحتمل الإصلاح، هو عالم يحتاج أن يُهدم ويبنى من جديد. أي نبية إنسانية تستطيع أن تبدأ المهمة؟