كل شيء “فيني” يدعوني للمقاطعة، كل ذرة من قلبي، لا عقلي، تدفعني دفعاً لعدم المشاركة في انتخابات كانت مقدمتها تغيير نظام المجلس بيد من يراقبه هذا المجلس ثم مُعَقبة بحل لذات المجلس دون تقديم أي أسباب مفهومة أو منطقية. الموضوع يمس الكرامة وفيه لا مبالاة غريبة بشعب تائه لم يعد يفهم مما يدور شيئاً. أريد، انتقاماً لكل شرخ في كرامتي وتحدياً لكل لا مبالاة وامتهان لموقفي، أن أقاطع بلا تردد، ولكن ما الذي تغير عندما قاطعنا المرة الأولى؟ نعم، أوصلنا فكرة، وبينا حجم المشكلة، ولكن ماذا بعد ذلك؟ كيف استفدنا من أي مكتسب للمقاطعة، كيف وظفنا كل ما مررنا به لصالح الديمقراطية الحقة التي نرغبها؟ والأهم من كل ذلك هل اتفقنا أصلاً على صورة للديمقراطية الحقة التي نرغبها؟ وهل كانت الحكمة تقول، وأنا قد قاطعت في أول انتخابات بعد مرسوم الصوت الواحد، أن نغضب على مدى موسمين انتخابيين ونترك الساحة للحكومة لكي “تقص الحق من نفسها” وتداري زعلنا وتأخذ بخاطرنا وتعيد وجه الديمقراطية الحقيقية إلى المقدمة؟ هل كنا واقعيين ونحن نتصور أن مقاطعتنا وغضبتنا ستؤثر في حكومة وإدارة لم يؤثر بها ما كان أوقع وأمر، لم تعلمها حتى تجربة الغزو درساً مفيداً؟
إن من يدعو الناس اليوم للاستمرار في المقاطعة عليه المسؤولية الجسيمة لوضع خطة قوية متكاملة لما سيحدث إبان المقاطعة وبعد المقاطعة، عليه الواجب المهم لتحديد طريقة العمل والسير خلال فترة الانتخابات، عليه الدور الأساسي في خلق حملة إعلانية ضخمة تساند كل ما سبق، وتؤمن للناس طريقا واضح المعالم محدد الأهداف لكي يتشجعوا ويمشوا فيه، أما بغير كل ذلك، فسندور دورة كبيرة، ونعود من حيث أتينا، نحن بغضبنا في منازلنا، والحكومة بإذن من طين، وكأنها حماة شامتة، يسعدها بعد الكنة “المؤذية” ويرضيها غيظها وقهرها. إذا لم تكن هناك مثل هذه الخطة فالطريق بكل أسف سيكون ملتوياً على نفسه، وسنبقى ندور في ذات الساقية، لا نحن نتقدم ولا نحن نستقر. إذا لم تستطع المقاطعة أن ترتب صفوفها وتخلق حراكا متكاملا واضح الخطوات صريح الأهداف، فالأمثل هو اللجوء لصندوق الانتخابات، على الرغم من ألم الكرامة والشعور بالخروج عن المبدأ ولو مؤقتاً، لإيصال من سيغير الحال ويعيد الأمور إلى نصابها. في اعتقادي، كانت هذه الخطوة هي الأجدر بعد حكم المحكمة الدستورية لصالح مرسوم الصوت الواحد، أياً كانت الملابسات والظروف وحتى التدخلات السياسية، وذلك لسببين، أولهما الاحترام المستوجب للمحكمة والسلطة القضائية حتى إن شابتها الشوائب، فهذه السلطة صمام الأمان، وإن فقدنا الثقة فيها وأوصلنا هذا الشعور للآخرين، فسندخل في متاهة مرعبة لربما تصل حد الهدم المتوحش للبنية الأمنية للبلد، كما أن حراك المقاطعة كان سيكتسب مصداقية من حيث التزامه بحكم المحكمة سواء جاء على هواه أو ضده، وثانيهما ما ذكرته أعلاه من أخذ الطريق المختصر لإيصال من سيسعون إلى التغيير وعكس مسيرة المرسوم الذي أَخَذنا للطريق السد الذي نقف أمامه اليوم.
هذا كلام كرره الكثيرون، كلما قرأته، وفيما أنا أكتبه، أشعر بألم الخيبة وبالاضطرار للاعتراف بهزيمة أُمَني نفسي بوقتيتها، كما أنني أخجل ممن سُجن وسُحبت جنسيته واستُهدفت كرامته وهو الذي كان متأملاً مساندة حراك كلنا بلا استثناء لم نكن على قدره. إلا أن التحرك في الملعب السياسي يجب ألا يكون إيقاعه على إيقاع القلب، ولكن على نبضات العقل، هذا العقل الذي خلفناه ونحن نمضي سابقاً في طريق كله “رموز” ولكنه خال من الإشارات، فتهنا وتوهنا الكثير معنا ومن حولنا. لست أقول إن الموقف السابق كان خاطئاً أبدأً، بل أراه موقفا مبدئيا مستحقا أتشرف بوقفتي في صفوفه المستقلة عن قياداته، ولكنني أقول إننا تركنا الموقف القوي آنذاك يذوب في حرارة غضبنا واستحالة تفاهمنا الذي أردناه أيديولوجياً كما هو سياسياً. لقد ضيعنا الفرصة في وقت كانت فيه المقاطعة قوية فاعلة، فما عسانا نفعل معها وبها اليوم وقد سقطت وكثرت سكاكينها؟ لابد اليوم من المبدأ البغيض للغاية التي تبرر الوسيلة، نحن الذين أوصلنا أنفسنا إلى هنا بالإهمال والكسل والاتباع الأعمى، والآن، لا بد أن ندفع الثمن.