قد لا تكون هي المجازر الأرمنية أو الاختلاف الثقافي أو سعر العملة أو المواقف السياسة والدبلوماسية تلك التي تقف حائلاً بين تركيا والاتحاد الأوروبي على قدر ما هو المعنى المكتوم في هذا المسلسل البغيض: حريم السلطان. تركيا مصابة بلعنة الشرق، لعنة حتى كل ديكتاتورية أتاتورك لفرض العلمانية لم تنجح في محوها، فتركتها مترنحة، تقف بين غرب يفتح أبوابه لأقصاها على مبادئ المساواة والحرية وبين شرق لاتزال شبابيكه تطل على حرملك غارق في اللذات والدسائس. إنها تلك الشبابيك التي لا تريد أن تغلق، تلك التي تعوق أبواب الانفتاح والتطور الكاملين من أن يتباعدا على مصراعيهما، سامحين للمدنية الكاملة أن تنير سماء تركيا الجميلة.
والشرق مريض بتطرف ديني مصبوغ بجنسية مرضية، يقيس الأشياء بمقاييس رغبة مهووسة، يشتاق إلى أزمنة غابرة، عندما كانت النساء تكوم لحماً وتباع بالرطل لمن يدفع أكثر. فالشرق الأبوي المتطرف لا يزال يرى في المرأة لحماً، ورحماً، ترضيه وتضمن استمراره، ولا أدل على ذلك من ثورات جاءت تنادي بالعدالة والديمقراطية والمشاركة في الحكم لتنكص على عقبيها منادية بتعدد الزوجات، واسترجاع الجاريات، وإباحة الجنس للأرمل مع زوجه المتوفاة لما لا يزيد عن ست ساعات. حتى هنا، على أرض الديمقراطية والدستورية، في كويت الحرية، يناقش المشرعون لباس البحر، مظهر المطربات، والمزيد من التسهيلات للزواج بالثانية.
شرق منكوب شرقنا هذا، ترك من دينه كل جميل، فراح يثيب ويعاقب جنسياً، فالجنة مليئة بالعذراوات، تماماً كنساء السلطان الجميلات، والنار مليئة بنساء حتى عقابهن ينم عن سادية جنسية يئن أسفلها المنطق والإنسانية. شرق غريب بعيد، مضبب ببخوره وعطوره ونسائه القابعات خلف الشبابيك، شرق لا يزال يدار بعقلية السلطان، الذي إن وهب، فلا تسألن عن السبب، وإن غضب، طارت الرؤوس ورفع العتب. وها هي كويت الديمقراطية تتداول قانون قتل من يتحدث بغير شرع المشرعين، ها هي كويت الحرية تناقش عودة نسائها إلى حرملك يعزلهن، بعد سنوات طويلة من تزامل رجالها ونسائها في العلم والعمل، وها هي مصر، وتلك تونس، وتستمر الثورة ويستمر حلم مختطفيها بالشرق المبخر القديم، شرق حريم السلطان.
تقول الكاتبة ماري آمي هيلي لوكاس في مقالها “الرمز المميز للهوية الإسلامية” أنه في الواقع لا توجد دولة إسلامية ولكن هناك دول مسلمة، دول تقر قوانينها “الإسلامية” بما يناسب واقعها ومتطلبتها، لذا، فإن قانون الأحوال الشخصية مثلاً يختلف في تونس عنه في مصر عنه في دول الخليج العربي عنه في إيران. وعليه ليس هناك دولة إسلامية مرجعية، لكن هناك دول مسلمة تختلف في تقييمها لقوانينها وذلك لسببين رئيسيين: العادات المحلية والاستخدام السياسي للدين. المثير في الموضوع، والقول لي، هو اتفاق تلك الدول، على الرغم من اختلافاتها الشاسعة، في “جنسنة” التعامل مع المرأة، في شوقها الشديد للحرملك الذي كان، في رغبتها المرضية التي صبغت بها تشريعاتها وتدينها وأبرزت من خلاله كل ممارستها تجاه المرأة.
تركيا منكوبة بعرقها الشرقي، فما إن أطلت عليها حكومة اسلامية، حتى بدأت بعض قواعد علمانيتها تتزعزع، تلك لتي لم يجد مؤيدوها من وسيلة سوى المزيد من الديكتاتورية لتثبيتها. إنها لعنة أصابت كل بقعة شرقية عاشت في تاريخ ما حياة الحرملك والامبراطورية الخارقة والسلطان الذي لا يُعصى، فبقيت أسيرة مجد غابر، تجتر ماضي كانت صباحاته سيوف بتارة ولياليه مخادع مسكرة. وها نحن نرى الشرق لا يزال غارقاً في حلم المراهقة المسكين، وها هي تركيا مبتلاة بالحلم اللعنة، حلم تجلى في هذا المسلسل المؤذي حتى في عنوانه: حريم السلطان.
“آخر شي”:
الشيء بالشيء يذكر، كيف، ونحن دولة ذات برلمان فاعل ودستور شبه علماني ومقدار جيد- وإن كان مهدداً- من الحريات، سندخل في اتحاد مع أشقاء لا يمتلكون معظم أو كل مما سبق؟ أنتخلى عما لدينا أم نفرض عليهم ما ليس لديهم أم نسكن كلنا في نفس البيت ولكن يقفل كل منّا عليه باب غرفته؟ وإن كان الاختيار الأخير، فما فائدة الاتحاد وكيف يتحقق اقتصادياً وسياسياً؟ كيف تتحد دبي الليبرالية اقتصادياً المحافظة اجتماعياً مع الكويت المتأسلمة اقتصادياً والمتحررة، وإن كانت تحت هجوم، اجتماعياً؟ طبقاً للنظرية الفرويدية، فإن العامل الجنسي هو أساس تكوين الشخصية الإنسانية، وطبقاً للنظرية الماركسية فإن العامل الاقتصادي هو ذلك الأساس، فإذا كان كل منهما على جانب من الحق، فاتحد العامل الجنسي الشرقي المريض، بالوفرة الاقتصادية المجنونة، فإننا حقاً مقبلون على ليل حرملك قاتم طويل.