مشكلتنا العويصة الدائمة أننا لا نواجه مشاكلنا، نحن نخلق صورة زائفة ساذجة ونعيشها أمام بعضنا، لا أحد يصدقها ولكن الجميع يشيد بها حقيقة وواقعاً، كل من يحاول أن يتكلم في زيف الصورة ومرار الواقع يتهم بأنه خائن، ناشر للغسيل، فاضح الأمة ومفشي أسرارها. غير مهم ما يحدث في داخل هذه الأمة، المهم أن الصورة من الخارج تبدو لامعة فاقعة تسر الناظرين.
إلا أن مشكلة أيامنا هذه أن الصورة التي استهلكناها زمناً فقدت لمعتها، فأصبحت مملة سمجة غير ذات مفعول لا في ترضية ولا في تصبير، نحن ست دول خليجية، تجمعنا ضفاف الخليج وتفرقنا عدة من أمور أخر. غنينا “أنا الخليجي” لسنوات، اعتززنا بالانتماءات المتشابكة والألسن المتقاربة (بعض الشيء) والطبائع المتشابهة (ليس كثيراً)، إلا أن الواقع يقول إن كل صلات الوصل هذه غير كافية لتبني اتحاد قوي حقيقي بين شعوب هذه الدول الست. ولربما هذا هو لب الموضوع: أي اتحاد تتحدث عنه سلطات هذه الدول الست؟ اتحادها هي أم اتحاد شعوبها؟ وهل من فرق؟
طبعاً الفرق شاسع، حين تتحد السلطات، فهي في الغالب، وحيثما كانت، تتحد لتقف أمام شعوبها، تتحد كقوة سياسية أمام القوى المجتمعية والشعبوية، أما اتحاد الأمم فهو قصة أخرى، وهو يتطلب تحضيرات جمعية مطولة وصعبة، هذا ما كان في أوروبا التي احتاجت ألف سنة لتبني دولها، وتحقق ديمقراطيتها، وتؤسس لمدنيتها الحقيقية الصلبة والتي على إثرها استطاعت أن تربط بين الدول على مساحتها، فلكي تتوحد الأمم فإنها تحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى إرادة، ولكي تحصل على إرادة فإنها تحتاج وقبل كل شيء إلى حرية، ولكي تحصل على حرية، فإنها تحتاح أولاً وقبل كل شيء إلى ثورة فكرية، حتى تتحقق هذه السلسلة فلن تتمكن الشعوب من تحقيق هذا الاتحاد، فذاك يتطلب أن تكون هي (أي هذه الشعوب) أقوى من سلطاتها وأنظمتها، وطالما نحن كشعوب خليجية مازلنا الطرف الأضعف، وطالما استمررنا في منهجياتنا العشائرية في وجوب السمع والطاعة ومعاملة أنظمتنا وحكوماتنا على أنها “أبونا” وليست مؤسسات إدارية تنظيمية على أراض وفي أوطان نحن، الشعوب، نملكها، فلا اتحاد سيتم ولا توحد سيكون ولا وصال سيتحقق.
نحن نختلف بيننا في دولنا الخليجية أكثر مما نتفق، نضمر أكثر مما نظهر، ولا ضير من كل ذلك، المهم أن نحاول أن نقرب وجهات النظر في نقاط الاختلاف ونقوي تلك في نقاط الاتفاق، نحاول أن نركز على مزايا اتحادنا كشعوب بخطاب حقيقي يحاكي واقعنا وييسر أمورنا ويشعرنا أن لهذا الاتحاد أثراً مباشراً في حياتنا.
لابد لنا أن نتفق أنه ليس المطلوب أن نهيم حباً في بعضنا بعضاً، ليس هذا المطلوب في اتحادات الشعوب، ولكن المبتغى هو أن نتفهم أهمية اتحادنا ونحدد نقاط التقائنا ونتقايض المنافع ونوحد الرؤية والهدف التي تخدمنا جميعاً، إذا ما تم كل ذلك، أمكن لشعوبنا أن تتحد بشكل حقيقي يتأتى من المنافع الواقعية التي يعدنا بها هذا الاتحاد، أما الحب… فيأتي بعد الزواج.
مرة أخرى، لابد لنا أن نكون كشعوب أقوى من أنظمتنا، أن نعيش حالة من الديمقراطية الحقيقية والحرية المفعلة، أن يشعر الشيعة بتساوي مواطنتهم مع السنّة وأن يشعر السنّة بتلاقي مصالحهم مع الشيعة، وأن يفهم الاثنان أن مذاهبهم في مساجدهم وليست سيوفاً مسلولة في حرب السياسة، أن يشعر المواطن وقبله المقيم بقيمته الكاملة كإنسان لا بتسعيرته ككائن يحيا في دول النفط، أن تخاف حكوماتنا منا وتحسب لنا ألف حساب، لا أن تفترش فضائحها السماء والأرض ولا وزير يستقيل ولا مدير يفصل، لابد من كل ذلك قبل أن نبدأ حتى مجرد التفكير في تشكيل اتحاد، وبغير كل ذلك، ما عندنا سوى فيلم سمج مللنا منه ومن مواعظه الساذجه. الأمر لنا… لنا نحن… شعوب الخليج.