تمر أفظع الأفكار وأقلها أخلاقية دوماً من بوابة الخوف، فالأمن، هذه الفكرة البقائية التي طالما كانت هاجس البشرية وأثمن محققاتها في حال استتبت، هو الجوكر الذي به يلتهم القوي الضعيف، و«يقش» باستعماله الساسة شعوباً بأكملها. هذه الشعوب التي ترضخ تهديداً بفقدان الأمن، دوماً ما تنحصر اختياراتها بين السيئ والأسوأ: فقدان الحرية أو فقدان الأرواح، الرضوخ لنظام قمعي استبدادي أو لنظام ديني أصولي، النظام مع الطاعة أم الفوضى مع حرية الرأي؟ وهكذا تنحصر اختياراتنا دوماً بين مفجع وأفجع منه كلما لوح «الحكم» السياسي بكرت الأمن أمام عيوننا، هذا الكرت الذي يمكّن صاحبه من فتح كل الأبواب ودخول كل الأماكن وتحقيق كل المستحيلات.
وهكذا بقيت الأمة العربية بأكلمها لسنوات تحمد الخالق على أدنى مستويات الحياة والحرية والأمن، فالبدائل أدنى من الأدنى. والخسارات، في حال غامرت الأمة بخيارات مختلفة، ما بعدها خسارات. هكذا استتب الأمر للنظام السوري الذي بقي يشوح للناس بالأنظمة الإسلامية الإرهابية كبدائل، وفي خضم محاولة النظام إثبات وجهة نظره، تداعى الشعب السوري كاملاً باقتصاده، وتهجر منه في غضون سنوات قليلة عدد أكبر بكثير من العدد الذي تهجر من فلسطين على مدى السنوات المئة السابقة، بل وإن «القمع الذي مارسه (النظام) والحرب التي شنها على مكونات المجتمع السوري»، يقول د. شفيق الغبرا في مقال له بعنوان «أزمة النظام السوري: بين الأسد ومخلوف»، الذي نشر في «القدس العربي» في 14 مايو/أيار 2020 «ساهمت في تدمير النظام السياسي السوري القديم». وهكذا فإن عناد وصلافة النظام السوري قادته ليس فقط لتدمير الشعب الذي يدعي حمايته، بل أيضاً لتدمير نفسه وتاريخه الطويل الذي صمد رغم كل الثغرات والممارسات الديكتاتورية السابقة. فهذه المرة ليست كسابقاتها، والنتيجة تلوح بفداحتها.
يكمل د. الغبرا قائلاً: «بل إن ادعاء النظام السوري بالانتصار في تلك الحرب كان من وحي الخيال. فالانتصار لا يقع عندما يتم تهجير الشعب السوري وتدمير اقتصاده وقراه ومدنه وقتل مئات الألوف من بناته وأبنائه». وذكرتني كلمات د. الغبرا بما كنت قد كتبتُه حول «هزيمة» حزب الله في 2006 أمام العدو الإسرائيلي، مستنكرة احتفاله «بالنصر الإلهي» توزيعاً للبالونات والحلوى، ودماء أطفال قانا لم تجف بعد. أثارت كتاباتي هذه استياء شديداً، خصوصاً في خضم ظهور تقرير فينوغراد الإسرائيلي الذي تعترف إسرائيل من خلاله بالهزيمة وتحاسب في طياته عدداً من الضباط والمسؤولين. ولأننا نعتقد أنه إذا ما هزم طرف فهذا يعني بالتأكيد انتصار الطرف الآخر، ولأن الخوف المحقق على أمن جنوبنا اللبناني يجعلنا نقبل بأي ممارسة، أي تبرير، أي تضحيات، ولو كانت بالبنية التحتية اللبنانية، باقتصاد لبنان، بمفهوم سيادته وبدماء أطفاله، مقابل وعود بالمحافظة على هذا الأمن والدفاع عن الحدود… كل ذلك يجعلنا نتوهم أننا نختار، ولكن هي هكذا خياراتنا دوماً، بين كارثة ومصيبة.
اليوم اللعبة ذاتها تلعب علينا، تعزفها بعض الحكومات على أوتار تاريخ قديم ومخاوف غير منطقية لتمرر ما تريد من مشاريع رهيبة. «إن دخول إسرائيل عبر بوابة الأمن والخطر الإيراني إلى منطقة الخليج سيضمن لإسرائيل عدة مكاسب»، يقول د. شفيق الغبرا في مقال آخر بعنوان «قضية فلسطين بين المتناقضات»، الذي نشرته «القدس العربي» في 21 مايو 2020، «أهمها عزل بعض دول الخليج عن إمكانية تحقيق حوار بناء مع إيران، كما ستسعى إسرائيل لعزل الخليج عن القدس، وعن مناصرة القضية الفلسطينية. وإن نجح هذا التوجه فسيؤدي بالطبع إلى فراغ إقليمي كبير، وهذا بدوره سيقوي نفوذ كل من إيران وتركيا. إن مقاومة السياسة الإسرائيلية ليست ترفاً بل قضية مصيرية تدق على أبواب منطقة الخليج».
لقد تم تحويل الأنظار اليوم إلى إيران على أنها مصدر الخطر الأكبر في المنطقة إفساحاً للمصالحة العربية الإسرائيلية، وهو ما سيؤدي -كما يؤكد د. الغبرا- ليس فقط إلى إضعاف العلاقات الإيرانية الخليجية، وبالتالي إضعاف الاستقرار الخليجي عموماً، ولكن كذلك لخلق فراغ إقليمي –وأضيفُ- هوياتي، يتوه فيه العرب عن طريقهم ويفقدون، في انكماش هذا الفراغ على نفسه، ما تبقى من معنى وتعريف لهويتهم النفسية والمجتمعية ووزنهم السياسي في العالم أجمع.
كلما أشرتُ و«أمثالي» إلى خطة استبدال الخطر الإسرائيلي بالخطر الإيراني، تم تذكيرنا بأصولنا الفارسية وجيناتنا الصفوية وهوانا الإيراني التي تضغط جميعها على عقولنا لتذهلها عن الخطر «الشرقي». وفي حين أنه لا يمكن نفي تواجد المشروع الإيراني، كما المشروع التركي، وكما المشاريع الغربية التي نراها تتشكل وتدس نفسها بصور وطرق شريرة في شرقنا الأوسطي كل يوم، فكل الدول الكبرى لها مشاريع، والدول التي لا مشاريع لها لا تعود كبرى في الواقع، فإنه لا يمكن كذلك سوى الإقرار بأن المشروع الأكبر والأضخم والأوضح في المنطقة هو في الواقع المشروع الصهيوني، بل هو مشروع لا يمكن بحال مقارنته، من حيث خطره واقترابه ودرجة امتهانه للحقوق والكرامات العربية ووقاحة وضوح مساعيه الإمبريالية، بأي مشروع استيطاني آخر، لا في المنطقة ولا في العالم أجمع. لكنه الخوف، هذا الذي تم سقيه يومياً بمياه «المخططات الفارسية الصفوية» القادمة بمشروع التشيع لاحتلال الخليج، هو هذا الخوف الذي ستمر إسرائيل من خلال بوابته لتدخل مجالسنا وتجلس فوق رؤوسنا و«تدلدل» قدميها أمام أنوفنا دون أن ننبس بكلمة. إنه الخوف الذي لا يمكّننا سوى من ترديد «آمين».