ليست الثورات الحقيقية الناجحة هي تمرد على نظام حكم أو على حاكم ظالم، إنما هي تمرد على نظام فكري بائد، تغيير جذري في المفاهيم الأيديولوجية التي بني عليها المجتمع الثائر؛ ولأن هذه الثورات هي ثورات فكرية، فهي تحتاج إلى أن تختبر نفسها وتجرب أفكارها إلى أن تصل للصيغة النهائية التي منها يمكن أن تبدأ في بناء مجتمعها من جديد.
تغيم الرؤية ويصعب تقييم الثورات العربية تحديداً بسبب وقوفها في المنتصف، فهي ثورات على أنظمة قمعية بالدرجة الأولى مصحوبة بثورات فكرية هامشية، وتلك الأخيرة لا تنال حظها من التجربة والتطوير المطلوبين تحديداً بسبب انحسار الاختيارات المابعد ثورية. هذا الانحسار يتجلى بكامل جفافه فيما بعد ثورة 25 يناير المصرية، عندما حُبس الاختيار ما بين “إخوان وفلول” على حد التعبير المصري آنذاك. محدودية الاختيارات هذه تأتت بسبب انشغال أبناء الثورة في الإطاحة بالمفروض القديم عن التحضير للاختيار الجديد، فكان أن سقط النظام القمعي القديم تاركاً فراغاً سرعان ما ملأه نظام عجوز آخر، نظام على الرغم من أنه بلغ من العمر أرذله فإنه متصابٍ يحاول مجاراة شباب الثورة “سريعة الريتم”، فما كان سوى أن دوى بسقوطه بعد أن فشلت كل مستحضرات التجميل في تغطية أخاديده الفكرية وبعد أن أبت عصاه أن تسند جسده المتهدم المريض.
تعثرت الثورة المصرية لا لشيء سوى لتهميش دور التغيير الفكري الذي يجب أن يكون هو الرئيسي في أي ثورة ناجحة. هذا التهميش أو الإهمال للجانب الفكري الثوري يتجلى اليوم بعد ثورة 30 يونيو في طريقة تعامل الثوار مع أعداء اليوم، زملاء الأمس في هذه الثورة المصرية الحديثة. ففي حين أن الحكمة وذكاء التصرف لم يعودا متوقعين من حزب “الإخوان المسلمين” بعد أن تم اختبار أدائهم، وتبينت حقيقة قدراتهم العملية والفكرية فثبتت فعلاً شيخوختهم الفكرية والأدائية، كانت الحكمة والذكاء منتظرين من الثوار والقيادة المصرية الجديدة الذين توقعنا أنهم فهموا أهمية التغيير الفكري لا الجسدي السياسي، أي أهمية تغيير أيديولوجية القيادة لا أجساد القادة.
لقد تبين عجز “الإخوان المسلمين” منذ وعدوا بداية بعدم نزول الانتخابات الرئاسية كذباً ليدخلوا بعد وعودهم مباشرة معتركها، في تهافتهم على القيادة في وقت عصيب كان الأحرى بهم أن يهربوا منها في أيامه، في ضعف قيادتهم المصبوغة بالطائفية والدكتاتورية التي تجلت في تغييرات دستورية مهينة وأحداث طائفية بشعة مع بداية عهد حكمهم القصير. بقي الأمل أن يلتقط الثوار الحقيقيون، شباب مصر، خيط التغيير الفكري، مجبرين الثورة على أن تأخذ بعداً أعمق وأكثر رسوخاً، فتبقى مصر آمنة بثبات ثورتها من أجل الحرية والديمقراطية الحقيقية مهما تغيرت الأجساد والأنظمة.
إلا أن الأحداث الأخيرة حادت مرة أخرى بالثورة عن بعدها الفكري، ففي حين تفهمنا للثورة الشعبية التي تستدعي جيشها ليساندها راضخاً لإرادتها، إلا أننا لا نفهم ثورة تهبط للشارع مفوضة الجيش، فأي تفويض وبأي أمر؟ ومنذ متى تتخلى الثورات عن زمام الأمور فتفوض عسكرها، الذي لا يحمل حقيقة رسالة فكرية غير تلك المرفوعة على أسنة الأسلحة، ليتخذ القرارات عنها؟ إلا أن الحياد عن الثورة الفكرية اتخذ بعداً أخطر تجلى في طريقة التعامل مع “الإخوان المسلمين”، حزبا كانوا أو أتباعا بسطاء في الشارع، وهو بعدٌ نتمنى أن يقف عند حدوده فلا ينغرز عميقاً في قلب الشارع المصري.
فمهما بلغ سوء أداء “الإخوان” وسواد نواياهم، يبقوا شريحة مهمة وكبيرة في الشارع المصري، ولربما لن يظهر البعد الفكري للثورة كما سيظهر في الطريقة التي يقرر بها الثوار التعامل المستقبلي مع جمل “الإخوان” الذي “كثرت سكاكينه” منذ سقوطه. فإن اختار الثوار طريق العنف، معمقين بذلك انقسام المجتمع المصري، عازلين شريحة كبيرة من شرائحه عن باقي جسده، فهذا يعني أن الثورة لم تحقق التغيير الفكري المطلوب. لم يعد أسلوب التصفية والعزل والمقاومة العنيفة مقبولاً في وقتنا هذا كحل لمعضلة فكرية كالتي تفترش أرض مصر بين شباب ثورتها وشيبة حزبها “الإخواني” المعزول. لا مفر اليوم من الاحتواء وإيجاد أرضية مشتركة للاختلاف الحميد، وهذان يجود بهما الطرف الأقوى، وهو اليوم شباب الثورة وجيشها وقيادتها. على ذكر القيادة، أين الرئيس عدلي منصور؟ ولمَ لا يظهر على سطح الأحداث سوى السيسي؟ معضلة فكرية أخرى؟