في البداية كانت آلاء صلاح، تلتحف قماشة بيضاء واحدة تلتف على جسدها كأنها آلهة إغريقية، صعدت المنصة فأنشدت بصوتها وجسدها ورأسها ويديها وشعرها: “نحن السقينا النيل/ من دمنا الفاير”، في البداية هي آلاء وكنا لنغني وننشد حماسة وثورية وجنونا بالحرية معها: “ما بننكتم نسكت/ في وش عميل جاير”، بل وقد فعلنا في اللحظات التي ظهرت هي فيها رافعة يديها وكأنها المخلصة الأنثى الأولى لهذا العالم العربي الغارق في ذكوريته الشوفينية، غنينا وأنشدنا وإهتزت أجسادنا المقموعة بألف حرام وعيب وممنوع مع كلماتها، وذلك إلى أن ظهر البيان الكريه رقم واحد، ماذا سيحدث لك الآن أيها السودان الجليل؟
تعود بي الذكرى إلى البيان المصري رقم واحد في 2011، أتذكر الوجوه المذهولة والقلوب الخافقة، كأن الدماء ستبح طافقة من جدرانها وإلى خارج جلود أجسادها. أتذكر الحماس والأمل، وكأن الدنيا أصبحت في كف أيادينا، أتذكر الثقة الساذجة والنظرة المستقبلية الحالمة، أتذكر شعوري الشخصي بأننا على وشك أن نحول العالم العربي بأكمله الى ديمقراطية علمانية ليبرالية إجتماعية، الخلطة بأكملها هكذا بمعية ترابطها الذي يجب أن يكون، أتذكر الخطة الحالمة المسكينة في رأسي التي كنت أعلم أنني لن أرى نهايتها، فهي خطة، كنت أدرك، تمتد عبر أجيال، تحتاج لمئة سنة أو أقل أو أكثر بقليل لتحقيقها، ولم أكن أهتم لأن أرى نهاياتها على كل الأحوال، أنا أشهد بدايتها، والبداية دائما أهم وأجمل وأشهى، البداية هي عنفوان الشباب الذي يضاهي ويغلب نضج النهايات مهما كانت هذه النهايات جميلة وناجحة.
اعتقدنا، الثوريون المتحمسون الحالمون من جيلي والجيل السباق واللاحق له، إعتقدنا جميعنا ومصر تقوم بثورتها أننا عند مفترق طرق، أننا على وشك أن نشهد طفرة إجتماعية، أننا ننظر بأعيننا إلى حدث لن يتكرر، لربما مثل حدث إلتقاط أول صورة للثقب الأسود الذي حققه العالم الغربي اليوم فيم نحن بعد نقوم بالثورات ونعد بيانات رقم واحد. كانت أياما حالمة، لازال طعمها باقيا مَرارا كالذي يخلف الحلاوة الصناعية. لم أفقد الأمل في الثورات العربية، لازلت أسميها ربيعا وأستنشقها ياسمينا رغم دخول الشتاء عليها ورغم ذبول وردها. لقد علمنا التاريخ الإنساني أن نصبر على الثورات ونصابر، أن نمد بصرنا لأبعد من أعمارنا، وأن نتأمل حسن النتائج للأجيال القادمة التي لن نراها أو نرى زمنها. إنه الحلم بمستقبل أفضل، لن نراه أو نتمتع به، ولكن الأمل في تحققه، التطلع إليه، المشاركة بصورة أو بأخرى في بنائه، تلك هي السعادة المتوافرة لنا، نحن جيل البيانات رقم واحد، والدوائر الثورية المغلقة التي دائما ما تلتف لتعود بنا حيث بدأنا.
اليوم يوم السودان، تُلي فيها البيان البشع رقم واحد، بشع مهما تبدى من حكمته وحنكته، مخيف مهما تبين من أمانه، مزلزل مهما وعد من ثبات وحماية. اليوم يوم بيان السودان رقم واحد، ويا لشساعة الفرق بين مشاعرنا العربية “البيانية”، بهجة بيان مصر، رعب بيان السودان، أحلام بيان مصر، مخاوف بيان السودان، آمال بيان مصر، محاذير بيان السودان، كبرتنا السنوات والتجارب كثيرا، ذبلت أحلامنا وآمالنا، وأحكمت فرحتنا إلى آلة حاسبة تاريخية، بتنا نحسب على وقعها الآمال والأحلام والفرحات. الدروس قاسية، والأقسى منها ما بقي في القلب من أمل، من رغبة في الفرح، فتلك البقايا إذا ما خُدشت ستقضي على ما بقي من لين قلوبنا التي يطريها التوق والرغبة والحلم، إذا ضاعت كل تلك، تحجرت قلوبنا وأكملنا الحياة بلا حياة.
أشعر الآن بتجربة والدي النفسية إبان حرب 67، أكاد أرى القصة التي رسمها بكلماته رؤي العين، وهو يحكي عن الأمل يتمدد أنفاسا حد انفجار الرئتين، ثم يخمل ويخمد حد ضمور الرئتين وإنقطاع الأنفاس. حكى لي والدي قصة الأمل المتصاعد الذي تقتله التجارب والأيام، حكى لي عن مشاعر جيل كامل صدق القصة، وجرى خلف سراب، وحين اكتشف الحقيقة لم يتحملها، فأخذ بعضهم طريق الأيديولوجية الإسلامية، وأخذ آخرون طريق اللامبالاة الوجودية، وآخرون كفروا بالعروبة وكل ما يمتد لها بصلة، منتزعين أنفسهم وذويهم من جذورهم مرتحلين بهم نحو الغرب، حيث تربة تحقيق الأحلام. ذوبان الآمال قاس، موجع، حارق كمثل حرقة مادة كاوية تمر بالبلعوم. فكم من مرة نستطيع نحن أن نبتلعها ونستمر أحياء لنرو القصة؟
لعل حظك يا سودان أحسن، لابد أن نؤمن أنه سيكون أحسن، قلوبنا معك.