رغم أنني تخطيت الخمسين بسنة، أي أنني فعلياً تجاوزت منتصف العمر منذ فترة، إلا أن الفترة الحالية هي الأولى من نوعها في فرضها لهذا الشعور بالتقدم بالعمر على جسدي وذهني. نعم، التغييرات البيولوجية واضحة لا يمكن نكرانها أو تجاهلها، فمن البياض الذي بات ينظم غزواته للشعر في أيام لا شهور أو سنوات كما كان الحال ذات زمن، إلى الآلام الباهتة غير ذات طعم التي تحتل الركبة بين الحين والآخر، إلى عملية الهضم والحرق التي تعسرت وبطأت وتوترت، إلى أظافر اليدين التي ضعفت وتقصفت، إلى غيرها الكثير مما يقال ومما تمنعني عنجهيتي البشرية عن الاعتراف به، إلا أن كل هذه التغييرات البيولوجية لا تنافس في أذاها وألمها التغييرات الفكرية والأخلاقية التي أدعي مواجهتها مع ابتعادي عن سنوات الشباب وابتعاد الزمن المعاصر عن طريقة تفكيري وعقلنتي للأمور.
تتغير الظروف بسرعة خارقة من حولي، أو لربما أتباطأ أنا في اللحاق بالركب حتى ما عدت أميز الصورة عن بعد. أعرف كيف أعمل عموماً، على سبيل المثال، من خلال سبل واضحة ومقننة، من خلال لجان وقنوات منظمة وقوانين بينة تحكم النشاط وتنظمه، إلا أن أساليب العمل الحالية تنحو للسرعة وإن أتت على حساب الوضوح والديموقراطية وإشراك الجميع. لم يعد هناك الكثير من الصبر، وخصوصاً أن نموذج القرارات الديكتاتورية السريعة حقق نجاحات أكبر بكثير في عالمنا الشرق أوسطي المسكين من نمودج القرارات الديموقراطية ذات السكك الطويلة والمتطلبة لصبر وتحمل كبيرين. تكلفة الديموقراطية كبيرة، فيما إنجازات القرارات الديكتاتورية سهلة وسريعة وذات نتائج واضحة، سرعان ما تلمع للناظر من بعيد وإن كانت خاوية وفاشلة في لبها. الديموقراطية بطيئة والديكتاتورية والشمولية بطعمهما العشائري القديم سريعتان، وهما تبدوان مكتسحتين بقوة في كل ساحات الحياة اليوم.
في منظوري، أن يتأخر القرار الصحيح هو أهون ألف مرة من أن يُحقَّق إنجاز مفروض، سري، مغيبة عنه الجموع المعنية به. وفي منظوري أن يتأخر القرار الصحيح هو أهون من أن يُحقق إنجاز مغلف بالوقاحة، مر بالعنف وبسوء المعاملة وبالقسوة والبذاءة. القرار الصحيح لو تأخر ملحوق، لكن أخلاقيات العمل والتعامل لو تدهورت فهي إلى مأواها الأخير.
لكنها الحياة وقوانينها وهي، في معاصرتها الحالية، تفرض علينا صورة «البطل البذيء»، هذا الذي أصبح متصدراً وسائل التواصل اليوم، والذي مهما قلت خبرته أو صغر عمره أو فقُر علمه، فإنه بصوته العال وبأسلوبه الوقح وبكلماته المهينة يكتم الأصوات الحقيقية العاقلة، محققاً مبتغاه ومعلناً انتصاره على أشلاء ليس فقط المنطق، ولكن كذلك الأدب والأخلاق. بطل الميديا هذا نزل للحياة الواقعية، وأصبح نموذجاً يتبناه السياسي والرياضي والأكاديمي والإعلامي وشيخ الدين بل وأحياناً المعالج النفسي كذلك، أصبح هو الصح والمهذب خطأ، أصبح هو البطل والهادئ جبان، أصبح هو الجذاب حاصد «الفولو» و»اللايك» وفي الحياة الحقيقية الرضا والإنجاز والوقور عفيف اللسان ذبابة على الحائط.
لربما كل هذه الأحكام غير حقيقية، لربما هي سنيي الواحدة والخمسون التي تجعلني أرى الأمور بمنظار قديم، تهتكت عدساته وصدأت أطرافه، لربما محاولة تحصيل ما يمكن تحصيله ولو بالشمولية وعشائرية المنحى والاعتماد على الوسائط والعلاقات واستخدام الصوت العالي والأسلوب البذيء والوقاحة المعنونة اليوم جرأة وشجاعة، لربما كل هذه هي الحق والأشخاص الذين قَدُمت أرواحهم وصدأت أفكارهم وانطفأت أساليبهم بعوامل الزمن هم الذين على باطل بكل مفاهيم «الأدب والأخلاق وحسن الحوار ورفعة التخالف والاختلاف» القديمة المتهتكة التي تحولت إلى شعارات قديمة لا تغني ولا تسمن من جوع. بتغيير طفيف للتوصيف، تصبح الوقاحة جرأة، والتعدي اللفظي شجاعة، والشتم مواجهة، وقلة الأدب قوة حوار، لتصبح كلها حرية رأي وتعبير، وهو توصيف أتفق معه تماماً، فهي فعلاً كلها حرية رأي وتعبير، حرية كانت ذات يوم هي الاستثناء الذي يلجأ له اليائس أو البذيء في أشد الحالات فيم هي اليوم السائد الذي يلجأ له الأغلبية العطشة للمال والشهرة والسيطرة في كل الحالات.
اليوم كان يوماً صعباً، سمعت فيه ما يؤذي روحي، والتي لا يؤذيها شيء كما يؤذيها المسموع البذيء. في طريقي لبيتي كنت أسمع ضربات قلبي في أذني وقد تغبشت رؤيتي وارتجفت يداي على مقود السيارة. لم يكن الحدث كبيراً، لكنه كان عميقاً، ولم يكن مستحقاً لكل رد الفعل هذا، لكنه لم يأت وحده، أتى مع إحدى وخمسين سنة من عمري دفعت بجسدي لرد فعله هذا. ما عدت أحــتمل وأدعي أنني لا أستحق، كيف سأعيش بقية العمر، أياً كان ما بقي منه، مع الانتصارات اليومية للبطل الـــــبذيء؟