الأسطوانة المكسورة

كتبت الزميلة الرائعة لمى العثمان يوم الجمعة الماضي عما هو “الأغرب والأعجب والأخطر والأصعب” في التناول الحكومي وبعض من التناول المجتمعي لقضية الكويتيين البدون. وقد لا ينطبق عنوان أفضل مما اختارت الزميلة لحالة الوضع ولوضع الحل اللذين تركانا ندور في دائرة مغلقة من “الكليشيهات” العنصرية والأحكام الشوفينية التي إن فعلت، فإنما عمقت دائرة المشكلة صانعة خندقاً حولها يمنع وصول أي حل حقيقي لها. فالسيد صالح الفضالة يردد ما نسمعه من سنوات عدة، نسمعه بجمل رسمية منمقه مثل “التوصل للجنسيات الحقيقية لـ67 ألفاً من البدون” ونسمعه بجمل شعبية غارقة في تاريخ من الترويج الذي بتكراره أصبح حقيقة عند الكثيرين مثل “كلهم متسللين خاشين جناسيهم”. الجملتان متطابقتان، وحدة “كشخة” فيها أرقام وصادرة عن مسؤول حكومي، والأخرى شعبية فيها تنفيس بني على غياب المعلومة وحضور العنصرية.

 واليوم، نحن الذين نمتلك الإرادة لمراجعة التاريخ و”لقص الحق من أنفسنا” نقول تعبنا من الترديد والترداد، وكأننا مغنٍّ وكوراله خلفه، ما الذي يمنع من الكشف عن جنسيات هؤلاء الذين تدّعون تزويرهم لوضعهم وتحويلهم إلى القضاء؟ لماذا يحرم هؤلاء الأفراد حق التقاضي الذي لن يعيد لهم هم فقط حقهم، بل يحفظ للدولة حقها وأمنها ويعلي سيادتها؟ وهل تعلمون أن ترك الوضع على حاله إنما يعطي هؤلاء في الأعراف الدولية والإنسانية وبعد أن أقاموا على أرض الوطن ما يزيد على 40 سنة فأنجبوا الأولاد والأحفاد ولربما أبناء الأحفاد، هل تعلمون أن هذا يعطيهم حق الانتماء والمواطنة؟

من يغوص عميقاً في القضية سيتعرف على الطريقة التي تقدم بها الحكومة أرقاماً وتصريحات: فمثلاً، عندما يصرح الجهاز أن 20 ألفاً كشفوا عن جنسياتهم العام الماضي، حقيقة الوضع أن هذا العدد في أغلبه اشترى جوازات مزوة من مكاتب موجودة على أرض الكويت وبتشجيع متضمن من الجهات المسؤولة، اشتروها ليقتربوا من أي لمحة لحياة ممكنة، ليستطيعوا أن يستخرجوا شهادة ميلاد هنا، أو ليعقدوا زواجاً هناك أو ليؤدوا العمرة أو يسجلوا طفلاً في مدرسة أو حتى ليشتروا سيارة. هذه الجوازات تنتهي بعد مدة، ويصبح أصحابها بدون البدون، لا ينتمون إلى الدولة المعنية في الجواز المزور ولا ينتمون إلى فئة البدون، ليدخلوا نفقاً أظلم وأمر. ثم، وفي نور صباح اليوم التالي يخرج التصريحي الحكومي: 20 ألفاً كشفوا عن جنسياتهم. كيف يكون الظلم؟ وكيف تتأتى القسوة؟ وأين يختفي الضمير؟

ليست المشكلة فقط في تصريحات حكومية تفتقر إلى الدلائل وتدين الحكومة في الواقع أكثر مما تبرئها، إنما المشكلة تتعمق كذلك في ردود أفعالنا، وعندما تصرح الحكومة بامتلاكها أوراقاً وثبوتيات لـ67 ألفاً من البدون، فما الذي يجب أن يكون، نهلل لكشفها أم نسألها إظهار الدليل مصحوباً بتبرير لتغطيتها هذه الأدلة على مدى سنوات طويلة مرفقاً بتوضيح للكيفية التي سيتم بها تعويض أصحاب الحق الذين عانوا من تراخيها لسنوات طويلة؟ عندما تصرح الحكومة بإعطاء البدون “مميزات” شهادة الميلاد وشهادة الزواج، هل نقول كثر الله خيرها وكأن الحكومة محسن والشعب فقير إلى الله، أم نقول وما منع هذه “الحقوق” عن أهلها كل هذه المدة؟ وكيف تحرم بشراً من ورقته الثبوتية والبلد من أمنه وأمانه بترك البعض بلا أوراق ولا توثيق؟ وعندما تصرح الحكومة بأرقام صندوق التعليم الذي يصرف على الطلبة البدون، هل نقول شكراً إحسانك، أم نلوم تبذيرك، فالطلبة البدون الذين عزلوا عن مجتمعهم وأقرانهم الكويتيين لا يشكلون، لو وزعوا على مدارس الكويت، وبحسبة بسيطة، أكثر من 14 طالباً في كل مدرسة، 14 طالباً فقط في كل مدرسة من مدارس الكويت، فنستفيد من أموال صندوق التعليم، وندمج أطفالنا سوية، فتختفي النزعات الإقصائية العنصرية وينمحي الشعور بالإقصاء والظلم، ويسترد مجتمعنا شيئاً من عافيته ونضارة وجهه؟    كيف يجب أن “نرادد” الحكومة في تصريحاتها حتى نصبح المجتمع الإنساني الذي نتمنى ونتطلع؟

لنعد فنقف لحظة: 67 ألفاً تمتلك الحكومة أوراقهم الثبوتية؟ 67 ألف إنسان، حلم، مستقبل، بيت، عائلة، 67 ألف حياة، هكذا، بتصريح نقصيهم ونعيد كالجوقة اتهامهم دون دليل؟ 67 ألف إنسان جردهم التصريح من الهوية، من المستقبل، من أدنى درجات الحقوق الإنسانية في اللجوء للقضاء ليقضي في أمرهم، وينصف الأرض التي يعيشون عليها، 67 ألف تصريح، نطالب بتفنيدهم، إظهار دلائل الادعاء على المقصودين بهم، توضيح أسباب الكتمان السابق، وإلا، فكفى بالله عليكم هذه الأغنية المبتورة، مللنا سماعها، تخرق آذاننا بلحنها الرديء الرتيب المكرر “أخفوا جناسيهم… أخفوا جناسيهم” فلتظهروا أنتم دلائلكم ولتشرعوا في الإعداد للحن جديد، ينصف الإنسان والوطن الذي يضمه.

«آخر شي»:

 إيقاف برنامج توك شوك للزميل محمد الوشيحي، نغمة أخرى في لحن موت الحريات الحزين الذي يسري في شوارع الكويت منذ مدة، وكله باسم الوحدة الوطنية، لم أعرف في التاريخ وحدة مزقت شعباً مثل وحدتنا.