حين نقارن ردود أفعال شعوبنا الشرق أوسطية بردود أفعال شعوب بقية العالم، يبدو واضحا أننا “مو شايفين خير” على ما نقول في منطقة الخليج. تتنافس شعوب دولنا حاليا على إطراء حكوماتها والتدليل على حسن أدائها خلال أزمة كورونا بشكل يثير الدهشة، هذا بخلاف الإطراء الذي تسبغه هذه الشعوب على ذاتها، من حيث قوتها وتلاحمها ووقفتها الصلبة إبان الأزمة. لقد أظهرت هذه الأزمة أن أبناء الشرق الأوسط كلهم أبطال وحكوماته كلها كمبيوترات وأن كل فرد منا يهيم عشقا في وطنه حتى أنه مستعد لأن “يموت ويحيا الوطن”.
وهؤلاء هم ذات أبناء الأوطان، حيث الأغنياء منهم ينهبون خيراتها بلا حسيب ولا رقيب، بلا حساب ولا عقاب. ومتوسطو الدخل فيها يهملون واجباتهم تجاهها، يستهلكون طاقاتها، ويلوثون شوارعها. ربما أنا قاسية في أحكامي، فالمفروض أن الأوقات الصعبة تظهر أفضل ما لدى البشر، وأن هذا الأفضل يكون مدعاة فخر وموقع مدح لا مدعاة سخرية وموقع نقد.
إلا أن طريقتنا المبالغ بها في امتداح أنفسنا وتكافلنا الشعبي، تُحوّل الوضع فكاهيا سورياليا. كما أن إبراز الدور التطوعي وامتداحه طوال الوقت هو مؤشر سلبي على أننا غير متعودين على هذا الدور، وأنه طارئ يستحق كل هذا الانتباه.
معظم وسائل التواصل، المنطلقة من معظم الدول العربية، تبث بالصوت والصور الأعمال التطوعية من أصغرها إلى أكبرها، حتى أصبحت أقرب للتمنين من المساعدة، فكيف تلتقي نشوة التفاخر هذه بتواضع التطوع والمساعدة الذين يفترض أن أهم ما يخدمهما هو الهدوء والسرية؟
أما في إطراء الحكومات، فهنا المعضلة المدهشة. اليوم لا نرى دولة أوروبية قامت شعوبها تحمد وتشكر الحكومات على حسن الأداء، فحسن الأداء متوقع، تحصيل حاصل، وإلا لن تستحق هذه الحكومة موقعها بل ولن تكون سياسيا “حية ترزق” في الانتخابات القادمة.
هذا، وكما جاء في مقال نائل بلعاوي “صناعة العبودية” الذي ينقل حوار بينه وبين صديقه النمساوي الذي سأله البلعاوي ألا تستحق حكومة كورتز الشكر على تحقيق دورها الفاعل خلال الأزمة؟ حيث أجاب الصديق “ولماذا نشكرها؟ كورتز وأعضاء حكومته يتقاضون أجورا عالية للقيام بمثل هذه الأدوار وفي مثل هذه الأزمات تحديدا. لقد وجدوا في مناصبهم لأجل هذا بالضبط، هم يعملون على خدمتنا يا صديقي، هذا شغلهم”.
شعوب هذه الدول تعامل الحكومات على أنها موظفة عندهم، تعمل في خدمتهم وتنظيم أمورهم إداريا، وإذا فشلت الحكومات، في أزمة كبيرة أو صغيرة، فشلا ضخما أو بسيطا، فستذهب غير مأسوف عليها و”مكسور خلفها ألف قُلة” على ما يقول المصريون، وستأتي غيرها لتسير على الصراط المستقيم، أو ترحل هي كذلك بلا أدنى تردد.
هذه شعوب تعامل حكوماتها على أنها أجيرة مؤقتة وليست ابنة خالتهم أو من بقية عائلتهم يجب أن يجاملوها ويجبروا بخاطرها. هذه شعوب لا تخاف من حكوماتها لأنها هي من وضعتها هناك وهي من تستطيع أن تزيلها من مكانها… بجرة قلم.
أما نحن في عالمنا العربي عموما والخليجي تحديدا، بيننا منافسة مسكينة عنوانها “حكومتي أحسن من حكومتك”، حيث ما أن تأتي حكومة تنظيم ما، تستورد غرض ما، تذيع مؤتمر ما، حتى يهب الناس تصفيقا وتصفيرا وكأن الحكومة أنهت مشكلة الفقر في العالم.
هذه الظاهرة المضحكة تدل على جوع عام للإتقان، على أننا “مش شايفين خير سياسي” فعلا، حتى أننا مع أول إشارة لهذا الخير، تجدنا نتمنى أن نقبل أيادي أعضاء الحكومة واحدا واحدا.
حاول أن توصل فكرة أن الاجتهاد والإتقان هما واجب الحكومة، وأن ما تدفعه هذه الحكومة من أموال لتحقيق الإثنين هو من جيوبنا لا جيوبها، وأنها لو أصبحت الآن مجموعة من الملائكة بأفرادها فردا فردا، فلن يغسلها كل ذلك من سوابقها، حاول ولن تصبح إلا خائنا في أسوء الأحوال، أو أحمقا في أفضلها، أحمق لأنك لا تعرف متى تختار الوقت المناسب للنقد، هذا ليس وقته، عندما تمر الأزمة، تختار الوقت المناسب، تشعل الشموع، تلبس أفضل ما لديك، تحضر العشاء، ثم تنتظر الحكومة تزورك فتخبرها بألطف الكلمات وأرق المعاني بنقدك، و”مش مباشرة من على الباب”، انتظر قليلا حتى يروق المزاج ويحل “المود” الصحيح للنقد.
وهذا “المود” لن يأتي أبدا، فإليكم ما يعتمل في القلب، ما تفعله الحكومات هو واجبها وأقل، فهل تستحق شيئا من الإشادة؟ “نمشيها”، لكنها بالدرجة الأولى تستوجب النقد والمراقبة وبشكل أبعد وأعمق بكثير. ما تقدمه الحكومات هو عمل نظير أجر، وأي أجر تأخذه حكوماتنا؟ أي شيء أقل من “بيرفكت” لن يكون مقبولا أو معقولا أو مناسبا كخدمة مقابل ثمنها الذي ندفعه لهذه الحكومات لسنوات وسنوات.
الشعوب جميلة بتراحمها وترابطها وتطوعها، لكن ذلك يفترض أن يأتي طبيعيا لنا كبشر ثم أن يتحقق بهدوء وسرية معنا كأناس متطورين ما عدنا نحتاج لقصائد المديح والثناء على فعل نقوم به طواعية وبدافع من الشعور بالواجب.
أما من يستحق الثناء والمديح والوقوف على الأقدام وخلع القبعات فهم الطواقم التمريضية بالدور الأول ثم كل طواقم العمل الأخرى التي تبقي البلدان عاملة فاعلة إبان الأزمة. كل هؤلاء يضعون حيواتهم على المحك، ما يقبضونه لا يمكن أن يعادل مخاطراتهم وتضحياتهم. فإذا فاضت مشاعرنا خلال أزمتنا الوجودية هذه، فلنوجهها لهؤلاء، هم من يستحقونها، وهم من لا يتحصلون على الكافي المستحق منها.