حديث د. احمد الخطيب عن تصنيف الكويت «دولة عاجزة أو شبه فاشلة» أو Failed State هو حديث ينهش ثنايا النفس ألماً وخوفاً وقلقاً، فأن يكون هناك خطر حقيقي لوجود هذا البلد كمأوى ووطن لأبنائنا وأحفادنا في المنظور القريب هو فكرة مرعبة لمن يحاول أن يستوعب معناها، وأبعادها، والأهم مسبباتها. يحدق الخطر الصارخ في المنظومات الدولية وتكويناتها المجتمعية ليس عندما تنضب مصادر دخلها أو ترتبك حكوماتها وبرلماناتها أو حتى تتهددها مصادر خارجية على حدودها، ولكن يحدق الخطر عندما تسقط المنظومة البشرية في داخلها، وعندما يضرب إسفين الطائفية والقبلية والطبقية في قلب المنظومة، فيتداعى هؤلاء البشر مضرجين بدماء فرقتهم وكراهياتهم، فالمنظومة الدولية يمكنها أن تتغلب على كل وأي صعوبة كانت إلا إذا نخرت السوسة في ثوبها البشري، وطفحت المشكلة من أعماق أعماقها، من قلبها النابض، من لبناتها البشرية التي يقوم عليها بناؤها الثابت الكامل.
نعاني ما نعاني من طائفية وقبلية وتطرف، ولكن تبقى مشكلة «البدون» هي السكين الأكثر بلادة، تقطع في أوصال مجتمعنا كل يوم ببطء موجع وباسترسال معذب آثم، تنخر بيننا سوسة قارصة حارقة، تلبد على شرايين أبناء الأرض، فتمتص دماء كراماتهم وسعاداتهم ومستقبلهم وأبسط حقوقهم الإنسانية.
عندما نولد بشرا صغارا «مكرمشين»، فإن أول ما نستقبله في هذه الدنيا هو تعريف لكينونتنا، فنصطبغ مباشرة بأسمائنا، بعدها تستصرخنا أول احتياجاتنا: الانتماء، فترانا نبكي قرب الآخرين، ننتظر محبتهم واحتضانهم، نريد أن نلعب في مجموعتهم وأن نكون معرّفين بهم ومعهم، تلك هي أول الاحتياجات الغرائزية البشرية: حاجة الانتماء، فكيف تكون الحال عندما تمنع هذه الحاجة الغرائزية الملحة عما يقرب من خمسة في المئة من التركيبة الوطنية؟
خطر محدق أن تعيش نسبة بهذا الحجم من المجتمع في عزلة اجتماعية واقتصادية ونفسية، تعاني الحرمان والامتهان، والأدهى والأمر، تعاني غربة عن مجتمع وأناس وعادات ونظم حياة هي كل ما عرفت ومارست وآمنت به في حياتها، سجن خفي موحش، وأسلاك شائكة تحيط بهذه الفئة من أبناء البلد، لا يراها ولا يتلظى بنيرانها سواهم، ولكن ما لا نعيه هو أن نيران هذه الأسلاك ووحشة هذا السجن ستنعكسان على مجتمعنا بأكمله، فتهويان بنا في قاع جحيم لا تبقي ولا تذر.
لدينا ما يقرب من المئة ألف بدون يعيشون في موطنهم الكويت، جيلاً بعد جيل، وصولاً إلى الجيل الخامس حالياً، دون صك الانتماء الحديث الذي ينظم الحياة، ويدرج البشر ضمن منظومتهم الدولية، ويضمن حقوقهم وكراماتهم الإنسانية. إن هذه الخلخلة المجتمعية والتعسف الحارق مع هذه الفئة من أبناء الوطن لن يأتيا بأي نتائج إيجابية في «كشف المستور»، فالأغلبية العظمى من البدون حالياً، إحصاء 65، والذين يشكلون في حدود 40% من مجموع البدون في الكويت، هم أجيال خلفت أجيالا، وكل ما يعرفونه وأضاء وعيهم عليه هو أن هذه الأرض أرضهم، وهي البقعة التي يحبونها، ويتعلمون ويعملون فيها، يأكلون من خيراتها ويساهمون في اقتصادها ولو بأبسط صور المساهمة كشراء المستلزمات الأساسية من السوق التعاوني أو حتى من دكان الحي الصغير. هم لم يساهموا في صنع قرارات الأجيال الأولى، فلِم يرثون أخطاءها إن كانت هناك أخطاء؟ وما تكون المواطنة إن لم تكن العيش على أرض الوطن، والتمتع بخيراته والمساهمة في بنائه بالعمل والعلم؟ ليس هناك من شك أن بين فئة البدون «متسللين جددا» يستغلون هذا الوضع الشاذ للانتماء لهذه الأرض الثرية الجميلة، ولكن مما لا شك فيه أن الأغلبية العظمى من البدون من إحصاء 65 وما بعده من إحصاءات كذلك هم ممن لم يعرفوا أرضاً غير هذه الأرض، ولم يخبروا عيشاً غير هذا العيش، بل منهم من لم يغادر أرض الكويت من المهد إلى اللحد، أفلا يستحقون وأجيالهم التي أعقبتهم شهادة تحفظ انتماءهم وحقوقاً تحفظ إنسانيتهم وكرامتهم؟ إن النداء بحل عاجل وجذري لا يتوقف عند حد النداء الإنساني فقط، ولكنه نداء سياسي وأمني ومجتمعي ملح، فنحن نهوي بسرعة، وهاويتنا نحفرها بأيدينا ونزيدها عمقاً بغرس الفكرة الساذجة «بأصالة» انتماءاتنا العرقية و»المكانية»، هذه الفكرة الآخذة في التواري في ظل النظام الأخلاقي الحديث الذي يقيم الإنسان على أساس من انتمائه الإنساني وتفعيل هذا الانتماء بعمله وإخلاصه لمجتمعه الذي ينتمي إليه، لا بحمل لقب ليس له فضل فيه.
لن ينقذنا نفط ولن يهوي بنا نفاده، بل تنقذنا مدنيتنا وإنسانيتنا وتكالبنا على بناء مجتمع قوي من الداخل يتحمل الضربات الخارجية المتوقعة، فإذا أردنا للكويت أن تستمر دولة قوية حاضنة لأجيالنا القادمة، فلابد أن نقوي نسيجنا الداخلي، وأول خيط نشده ونربطه ببقية الخيوط هو خيط البدون، حتى يندمج وبقية «القماش»، ويختفي تمايزه المخل بإنسيابية النسيج، فنحيا بقوة وجمال.
آخر شي: أن يكون لدينا سجين رأي يقبع خلف القضبان، وأن يتحول القلم إلى «أداة جريمة» كما السكين أو المسدس، إنما هي سوسة أخرى تنخر في عظامنا الآخذة في التآكل… سقطة خطيرة أن يعاني الإنسان تحت مظلة الدولة الحديثة جسدياً ونفسياً بسبب رأيه، أياً كان هذا الرأي. لقد استنفدت السلطة التنفيذية كل حججها ومعها صبرنا، ليخرج محمد عبدالقادر الجاسم من خلف القضبان رحمة بالكويت وبالأخلاق والمبادئ التي بنيت عليها ديمقراطيتنا، قبل الرحمة بالجاسم نفسه وعائلته.